في صيف حارق على الحدود الإيرانية-الأفغانية، نُقل الشاب الأفغاني عبد الله من مدينة أصفهان إلى معبر دوغارون في رحلة دامت 13 ساعة دون توقف.
“لم يُسمح لنا بشراء ماء أو طعام. كان الحر لا يُطاق”، قال وهو يتحدث من فندق متواضع في كابل. “الآن أحاول استخراج هوية وجواز سفر!“.
وراء هذه الرحلة الموجعة قصة أكبر: حملة ترحيل قاسية تشنها إيران ضد ملايين اللاجئين الأفغان.
الحرب.. ترحيل بذريعة الأمن
مع اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل في يونيو الماضي، شنت طهران حملة ترحيل جماعية ضد اللاجئين الأفغان.
اعتقلت السلطات الإيرانية الكثير منهم، واتهم بعضهم بالتجسس والتعاون مع إسرائيل.
حميرا قادري، الكاتبة الأفغانية والباحثة في معهد راتكليف في جامعة هارفارد، تقول للحرة إن الحكومة الإيرانية ووسائل الإعلام بدأت تصف المهاجرين الأفغان أحيانا بالـ”جواسيس”.
“تغيّر الخطاب تجاه المهاجرين الأفغان من اتهامهم بإرهاق الاقتصاد، قبل الحرب، إلى اتهامهم بتهديد الأمن القومي بعدها”، تقول ميترا ناعش، الأستاذة المساعدة ومديرة “مبادرة الهجرة القسرية” في جامعة واشنطن.
“هذا الخطاب استُخدم لتبرير عمليات الطرد الجماعي“، يشدد قادر حبيب الخبير في الشأن الأفغاني ومدير الخدمة الأفغانية في “إذاعة أوروبا الحرة”.
أكثر من هذا، تقول منظمة “هينغاو” لحقوق الإنسان، ومقرها النرويج، إن السلطات الإيرانية أعدمت 10 أفغان خلال شهر يونيو الماضي لوحده.
المنظمة قالت إن التهم شملت القتل، والمخدرات، والاغتصاب، والسطو المسلح، ولكن أيضا تهما دينيا وسياسية.
منذ 13 يونيو، اليوم الذي انطلقت فيه الحرب، ارتفعت وتيرة الترحيل بشكل غير مسبوق. أكثر من 300 ألف أفغاني طُردوا خلال 12 يوماً فقط. وفي شهر يونيو وحده، عاد أكثر من 450 ألف أفغاني من إيران، بحسب الأمم المتحدة.
“معدلات الترحيل ارتفعت من بضعة آلاف يومياً إلى 40 ألفاً في اليوم”، يقول قادر حبيب.
ويضيف: “هذه واحدة من أكبر عمليات الإعادة القسرية في العالم“.
اللاجئ الشاب، الذي تحدث إلينا إليه، يقول: “تم توقيفي ثلاث مرات، وفي المرة الأخيرة رحلوني… تعرضنا للإهانة وسوء المعاملة.. وضعونا في حافلات ولم يسمحوا لنا بالتوقف طوال الطريق“.
قبل الحرب أيضا
حتى قبل اندلاع الحرب في يونيو 2025، بدأت إيران بتكثيف ترحيل اللاجئين. في عام 2024، تم ترحيل نحو 750 ألف أفغاني. وفي مايو الماضي، أعلنت طهران هدفاً بترحيل مليوني أفغاني لا يحملون وثائق قانونية بحلول شهر يوليو.
تستضيف إيران أكثر من 6 ملايين لاجئ أفغاني، لجأوا إليها على مدار عقود هرباً من الحروب المتواصلة التي تعصف ببلادهم.
قادر حبيب يقول إن الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد دفعت السلطات إلى تحميل اللاجئين الأفغان مسؤولية الأوضاع المتردية، مشيراً إلى التضخم المتصاعد، وارتفاع معدلات البطالة، والعقوبات التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني.
ويضيف للحرة: “قامت السلطات هناك بالترويج لفكرة أن المهاجرين الأفغان يستهلكون الموارد ويزاحمون السكان المحليين على فرص العمل“.
يرفض حبيب هذه الادعاءات، ويقول إن معظم المهاجرين يعملون في مهن شاقة لا يرغب الإيرانيون في القيام بها، وبأجور متدنية.
“كنت أعمل في مصنع للطوب في أصفهان”، يقول عبد الله الذي اخترنا له هذا الاسم المستعار لأسباب أمنية.
كان الشاب الأفغاني يعيش في إيران منذ أربع سنوات.
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، تصاعد العداء ضد الأفغان في الشارع الإيراني. على مواقع التواصل الاجتماعي كان وسم “طرد الأفغان مطلب وطني”، يتصدر قائمة الترند بانتظام.
“في الواقع، خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الإيرانية لعام 2024، وجّه عدد من المرشحين للرئاسة علنًا اللوم للاجئين الأفغان. وحملوهم مسؤولية التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد”، تقول ميترا ناعش.
“المناخ العام أصبح معادياً بشكل متزايد… الأفغان صُوّروا كمصدر عبء وخطر“، يؤكد حبيب.
ويتابع: “مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ساهمت في ذلك“.
حليفان لا حليف لهما
بعد الحرب، توسعت حملات الترحيل إلى مستويات غير مسبوقة.
لا تبدو هذه الحملات نتيجةً للأزمة الداخلية في إيران فقط. في الواقع، تأتي أيضاً في سياق توتر دائم بين إيران وأفغانستان، تغذيه خلافات مزمنة حول تقاسم المياه والتجارة والحدود.
في هذا الإطار، يبدو ملف اللاجئين ورقة ضغط مهمة لطهران على حركة طالبان.
مع ذلك، لا يرى حبيب أن العلاقة بين الطرفين في توتر حقيقي، قائلاً: “طالبان، المعزولة دولياً، حريصة على الحفاظ على علاقة جيدة مع إيران، ولا تملك ورقة ضغط مؤثرة“.
ويضيف: “بسبب ضعف الاعتراف الدبلوماسي بطالبان، ترى الحركة أن الحفاظ على علاقات مستقرة مع الدول المجاورة مثل إيران يحمل أهمية سياسية كبيرة“.
إيران نفسها لا تملك حلفاء كثر. طالبان قد تكون أحد حلفائها القلائل المتبقين.
في يناير الماضي، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي العاصمة الأفغانية كابل. وأعلن أن “فصلا جديدا” في العلاقات مع طالبان قد فُتح.
وكان ملفتا أيضا أن عراقجي انتقد ما سماه “رُهاب طالبان“، مطالبا بعدم النظر إلى الحركة كعدو.
جاء ذلك بعد أربع سنوات من سيطرة طالبان على أفغانستان. يومها، اعترفت إيران بسلطة الأمر الواقع لكنها لم تعترف رسميًا بحكومة طالبان.
طوال هذه السنوات الأربع، ظلت طهران تطالب دائما بتشكيل حكومة تشمل مختلف الأطراف في أفغانستان. لكن هذا المطلب اختفى مع زيارة عراقجي.
كان الطرفان في حاجة إلى بعضهما. و“لا يبدو أن قضية اللاجئين اليوم تثير أي توتر أو مواجهة بينهما”، يقول قادر حبيب.
أزمة على الحدود
التداعيات الإنسانية مؤلمة. اللاجئون المرحّلون يصلون إلى الحدود مرهقين، عطشى، وغالبا لا يملكون سوى الملابس التي يرتدونها.
“لم يكن لدينا شيء”، يقول الشاب الأفغاني. ويضيف: “على الحدود، أبقونا تحت الحرارة الشديدة. كانوا يعطون الأولوية للعائلات“.
على الجانب الأفغاني، كان الرجال يُنقلون في حاويات إلى مدينة هرات، بينما كانت العائلات تُنقل بالحافلات.
“لم أصعد إلى تلك الحاويات. كان الجو حاراً جداً، ربما متنا بداخلها قبل أن نصل إلى هرات“.
المنظمات الدولية، مثل الهجرة الدولية والصليب الأحمر، بالكاد تقدم المساعدات الأساسية. تقول المنظمة الدولية للهجرة إنها لا تصل سوى إلى 10% من المحتاجين. ويُعاني مكتب مفوضية الأمم المتحدة في أفغانستان من نقص حاد في التمويل، إذ لم يجمع حتى ثلث ميزانية لعام 2025.
“العائدون يفتقرون إلى الطعام، والمأوى، والخدمات الصحية”، يوضح حبيب. ويتابع: ” النساء والأطفال معرضون للخطر بشكل خاص“.
حميرا قادري تلفت هي الأخرى الانتباه إلى مسألة مهمة: “الكثير من الفتيات الأفغانيات اللاتي تم ترحيلهن سيواجهن واقعًا قاسيًا.. لقد نشأن وتعلمن في إيران، لكن عند عودتهن، سيُحرمن من حقهن في التعليم ويفقدن فرصة استكمال الدراسة”، تقول للحرة.
أما قادر حبيب فيقول إن العائدين من أقلية الهزارة الشيعية، وناشطي المجتمع المدني، والضباط السابقين في الجيش، والموظفين الحكوميين، وناشطات حقوق المرأة والصحفيات، كلهم سيكونون معرضين لخطر انتقام طالبان بعد العودة.
طالبان عاجزة
المرافق على الجانب الأفغاني من الحدود، لا سيما في هرات، تعمل فوق طاقتها. وفي ظل حكومة طالبان التي تعاني من عجز مالي وعزلة سياسية، تبدو الاستجابة غير كافية.
“السلطات الأفغانية تفتقر للقدرة على استيعاب هذا العدد من العائدين”، يقول حبيب. ويشدد: “أفغانستان تعيش أصلا انهياراً اقتصادياً“.
هذا الوضع المتأزم ينذر بموجات نزوح داخلية في أفغانستان، وحتى احتمالات لهجرة جديدة خارج البلاد، وربما نحو أوروبا.
لكن، رغم نداءات الأمم المتحدة لوقف الترحيل القسري، وللدول المانحة بالتدخل العاجل، تبقى الاستجابة الدولية محدودة.
في كابل، ينتظر الشاب الأفغاني الحصول على جواز سفر. “نحن لا نملك شيئاً هنا”، يقول. “في إيران، كان لدينا شيء نقوم به… سأحاول الحصول على فيزا لإيران والعودة“.
بين نارين، يقف اللاجئ الأفغاني في دوامة لا تنتهي: مرفوض في إيران، ومحروم في وطنه.

الحرة
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.