هل يشهد الشرق الأوسط أفول “عصر المليشيات”؟

لعقود طويلة، ساهمت الميليشيات في رسم المشهد العام في الشرق الأوسط.

كانت حاضرة دائما في الصراعات التي تدور في تلك البقعة من العالم. وكان المسلحون غير النظاميين يتصدرون الواجهة.

في العراق، استفادت إيران من سقوط نظام صدام حسين، ومن عوامل أخرى كثيرة، لتحكم، عبر الميليشيات، قبضتها على الساحة العراقية.

في لبنان بزغ “حزب الله” عام 1982 وتصدر المشهد لعقود. وفي سوريا، كانت الميليشيات المتقاتلة منذ 2011 ترسم بالنار والدم حدود النفوذ الإقليمي.

أما في غزة، فتحكّمت حماس لسنوات بمصير الفلسطينيين. ويتصدر الحوثيون المشهد في اليمن. وحمل الأكراد في الشمال السوري، وعلى الحدود التركية مع كردستان، السلاح وقاتلوا طويلا.

وكانت هذه الميليشيات كلها قادرة على تغيير مصائر الدول وتبديل مراكز القوى، وجرّ الشعوب، قسرا، إلى ويلات الحروب.

لكن يبدو أن شيئا ما بدأ يتغير..

“نقطة تحول”

منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، والحرب الإسرائيلية في غزة، والنزاعات الإقليمية اللاحقة، شهدت المنطقة تبدلات كبيرة.

سقط نظام بشار الأسد في سوريا، وتحولت الميليشيات الرئيسية التي اسقطته إلى قوات نظامية يتشكل منها الجيش وقوات الأمن. وفي لبنان، يبدو سحب سلاح ميليشيا حزب الله في سلم الأولويات، بعد الضربات الأمنية القاسية التي تعرض لها الحزب. وفي العراق، تتصاعد  الدعوات لتجريد الميليشيات من السلاح.

وكتب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بخط يده تغريدة نشرها على موقع “أكس”، يقول فيها: ” لن يُقام الحق، ولا يُدفع الباطل إلّا بتسليم السلاح المنفلت إلى يد الدولة، وحلّ الميليشيات وتقوية الجيش والشرطة واستقلال العراق وعدم تبعيته”.

أما حماس، التي بدأت هذا كله في 7 أكتوبر، فتبدو بدورها مضطرة إلى تسليم سلاحها وإخراج قياداتها من غزة، لإنهاء الصراع وتحقيق نهاية مستدامة للحرب، بحسب شروط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.

هذه التبدلات إذا أضفناها إلى دعوة عبدالله أوجلان حزب العمال الكردستاني لالقاء سلاحه، يمكن أن تشكّل ما يصفه الخبير في شؤون الشرق الأوسط ثاناسيس كامبانيس بـ”نقطة تحول”. وهذه النقطة الفارقة والحساسة، قد ينتج عنها فرصة جادة، “وإن كانت خطيرة”، بحسب تعبير كامبانيس، للدول لاستعادة السلطة من الجهات الفاعلة غير الحكومية القوية مثل “حزب الله” في لبنان والميليشيات المدعومة من إيران في العراق.

مخاض صعب.. ولكن!

رغم الحديث عن حل الفصائل المسلحة وإعادة توزيع أفرادها، لا يزال التحول الإقليمي الحقيقي نحو احتكار الدولة لاستخدام القوة يواجه صعوبات كبيرة.

يؤكد الباحث البريطاني-العراقي المتخصص في الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، جواد التميمي، أن “الحديث عن نهاية الميليشيات سابق لأوانه”. ففي سوريا، على سبيل المثال، لا تزال الكتل الكبيرة، مثل جيش الإسلام، موجودة إلى حد كبير كقوات قتالية، وحتى جماعات الميليشيات الدرزية المتعاونة في السويداء تحافظ على هوياتها الفصائلية دون دمج كامل في وزارة الدفاع.

“بعض هذه المجموعات الأكبر والأكثر بروزا لم يتم دمجها بعد. ولم يتم حل جميع الفصائل بعد”، يقول التميمي. كما أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سوريا لا تزال خارج سيطرة الدولة. وبالمثل، في اليمن، يمثل وجود الحوثيين ومختلف الميليشيات المناهضة للحوثيين استمرارا لتفتت السلطة. وحتى في العراق، لا تزال قوات الحشد الشعبي متجذرة بعمق.

ومع ذلك، فإن الضربات الإسرائيلية الأخيرة في لبنان واليمن وغزة ومن ثم في إيران، قد وضعت الجهات الفاعلة غير الحكومية في موقف دفاعي بشكل متناقض مع بنيتها الهجومية، مما أتاح فرصة للحكومات لتأكيد سلطتها في المناطق التي كانت في السابق غير خاضعة – أو شبه خاضعة – للحكم، حيث كانت الميليشيات غير الخاضعة للمساءلة تتنازع تاريخيا على سلطة الدولة.

يرى كامبانيس أن “الضربات الإسرائيلية خلقت معضلة حقيقية لهذه الجهات الفاعلة غير الحكومية ووضعتها في موقف دفاعي”.

ويضيف: “أتاحت الضربات فرصة للدولة لتبدأ بالفعل في ممارسة سلطتها في مناطق كانت غير خاضعة لسلطة الدولة”.

وربما يكون أبرز مثال على ذلك ما حدث مع “حزب الله” اللبناني بعد الضربات القاسية التي تعرض لها من إسرائيل، واضطراره إلى إسناد مهمة إنهاء الحرب وإدارة مرحلة ما بعد الحرب للدولة اللبنانية، وقبوله بتسليم سلاحه في منطقة جنوب نهر الليطاني، فيما يخضع لضغوطات إضافية لتسليم سلاحه بشكل كامل، وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها.

المخاض سيكون عسيرا، يؤكد الخبراء، لأن محاولة نزع سلاح الجماعات المتجذرة بعمق مثل “حزب الله” أو قوات الحشد الشعبي دون اندماج سياسي قوي أو ضمانات أمنية، ينطوي على مخاطر كبيرة، وقد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار أو حتى حروب أهلية.

يوضح التميمي أن “مجرد مطالبتهم بنزع سلاحهم وتوقع أن يعود مقاتلوهم إلى ديارهم أو أن يسلموا أسلحتهم، أمر غير واقعي للغاية”. تمتلك هذه الجماعات أصولا وأسلحة ومقاتلين وقادة، غالبا ما يكونون على قوائم رواتب الحكومة، كما هو الحال مع قيادات الحشد الشعبي.

ويقترح التميمي أن “نهجا أكثر واقعية يمكن أن يحاول تغيير انتماءاتهم، أي محاولة دمج أفرادهم فعلياً في فرق لتكون بمثابة جيش احتياطي، ولكن في الواقع ملحق بوزارة الدفاع”.

في حالة قوات الحشد الشعبي في العراق، يرى التميمي أن “نزع سلاح الحشد قسريا قد يؤدي حقا إلى حرب أهلية”. أما بالنسبة لـ”حزب الله” في لبنان، فعلى الرغم من أنه “تعرض لضربات شديدة من إسرائيل”، فإنه “سيظل يرغب في ضمانات بأنه لا يزال بإمكانه العمل كحزب سياسي رئيسي في لبنان”. وهو أمر تحدث عنه السفير الأميركي المسؤول عن الملف اللبناني طوم برّاك.

ويشدد كامبانيس على أن “حدوث انتقال كبير في ميزان القوى، خاصة إذا كان هذا الانتقال يتضمن كياناً قوياً سابقاً يفقد بعضاً من قوته (كما هو الحال مع حزب الله)، يعني أننا في لحظة شديدة الخطورة”. ويضيف: “قد تخوض هذه الجماعات صراعاً مميتاً للاحتفاظ بامتيازاتها واستقلاليتها”.

مستقبل الميليشيات وقادتها

إذا دخلت المنطقة بالفعل في “مرحلة ما بعد الميليشيات”، فإن أدوار قادة وعناصر الميليشيات السابقين ستختلف بشكل كبير. في سوريا، يعتمد مصير قادة ميليشيات النظام السابق على أفعالهم الماضية، مثل التنسيق مع المتمردين أو الانشقاق. يذكر التميمي مجموعة “وائل بكر” في حلب كمثال. فهي “نسقت مع المتمردين لإسقاط نظام الأسد، وفي المقابل قدم المتمردون ضمانات أمنية للقادة والشخصيات المرتبطة بوائل بكر”.

في مقابل ذلك، تبدو التحديات أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بالمقاتلين الأجانب، أو بالميليشيات التابعة للدروز أو الأكراد، غير المطمئنة بعد للسلطة الجديدة.

يقدم التاريخ أمثلة على حملات ناجحة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج.

“لقد حدث ذلك في لبنان بعد الحرب الأهلية عندما قامت كل الميليشيات باستثناء حزب الله بنزع سلاحها، وتقاعد مقاتلوها إما من القتال أو انضموا إلى الشرطة أو الجيش،” يقول كامبانيس. “لقد رأينا هذا، بدرجات محدودة من النجاح في العراق”.

ويضيف أن “الشرق الأوسط لا يختلف عن أي منطقة أخرى. فقد انتقلت أجزاء كثيرة من العالم من سياقات الحرب الأهلية الفوضوية حيث يوجد تفتت هائل في السلطة، وسيطرة الميليشيات الجامحة، إلى كونها محكومة وظيفياً من قبل دولة تستوعب المقاتلين السابقين والميليشيات السابقة في هياكل سلطة أكثر تنظيماً وأكثر رسمية”.

يختتم كامبانيس بالتأكيد على أنه “إذا كانت الدولة تريد، فإنها تستطيع ذلك في الغالب”.

التحدي يكمن في تجنب إيصال هذه الميليشيات الى الخسارة الكاملة للنفوذ والسلطة، ما قد يؤدي إلى تجدد الصراع، خصوصاً مع الجماعات التي تمتلك عمقاً شعبياً كبيراً. بدلاً من ذلك، فإن الصفقة التي تدمجهم في نظام أوسع (ولو بشكل غير كامل) من الحكم وتوزيع الموارد، من المرجح أن تنجح.

هذا قد لا يعتبر “نهاية سعيدة” في الدول التي تعاني أصلاً من الفساد والتفكك، لكنه بالتأكيد يعبّر عن تقدم نحو “نتائج أفضل” تمنع إراقة الدماء على نطاق واسع وتسمح بنظام حكم أكثر استقراراً، ويعيد قرار الحرب والسلم إلى الدول، ويقطع الطريق على استخدام هذه الميليشيات كأذرع ومنصات لمشاريع أخرى.

رامي الأمين

كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/05/cropped-lcon-1-e1748543136485.png?fit=120%2C76&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading