تحطيم التماثيل في سوريا.. قلة احترافية أم تشدد ديني؟

كان ذلك في أبريل 2013.

كان الربيع السوري يحترق بنيران الحرب الأهلية بعد ثورة شعبية عمل نظام بشار الأسد على إحباطها بالقوة منذ تفتّح زهور الربيع العربي في درعا في مارس 2011.

وكان أحمد الشرع، المعروف حينها بـ”أبي محمد الجولاني”، زعيما لجبهة النصرة ـ أكثر الجماعات تشددا في المعارضة السورية.

حينها انتشر خبرٌ كالنار في الهشيم، مفاده أن مسلحين متشددين قاموا بقطع رأس تمثال الفيلسوف والشاعر السوري أبي العلاء المعري، في مسقط رأسه في مدينة معرة النعمان.

كان ذلك الفعل، في ظاهره، مجرد تخريبٍ لتمثال. لكن في باطنه، كان يعكس طبيعة من قاموا بالاعتداء عليه، خصوصاً أن أبا العلاء المعري، الذي عاش قبل ألف عام، كان رمزاً للفكر الحر وللتساؤل العميق، وللنقد اللاذع الذي لم يخشَ سلطةً أو ديناً.

عُرف المعري بـ “رهين المحبسين” (العمى والبيت)، لكنه ظل طليق الفكر، شعاره “لا إمام سوى العقل”.

في يوليو2025.

الصيف السوري قائظ. حرائق تلتهم غابات اللاذقية. مع ذلك، كانت نسائم الربيع السياسي قد هبّت مع سقوط نظام بشار الأسد قبل شهور، وتنفّس السوريون الصعداء.

لكن في مدينة حلب، في إحدى ساحاتها العامة، كانت شاحنة تربط تمثالا، وتسحبه بقوة لتطرحه أرضا، وتحطمه.

لوهلة يعتقد من يشاهد الفيديو أن التمثال يمثل سلطة البعث أو يصوّر فرداً من عائلة الأسد. لكن تماثيل الأسد، الابن والأب، كلها قد جرى تحطيمها، كفعل سياسي مفهوم للدلالة إلى انتهاء حقبة قبعت كالبلاطة على صدور السوريين. وسرعان ما يتبين أن التمثال المحطم، لا علاقة له بآل الأسد ولا بالبعث، بل هو تمثال للشهداء في حلب. ويُسمع في الفيديو صوت رجل يقول: “الآن الإخوة سيزيلون هذه الأصنام التي نحتها المشركون منذ عقود”.

إذاً المسألة ليست سياسية ولا فنية؟

“التماثيل ليست محايدة”

القدرة على ترميز نهاية حقب تاريخية وبداية أخرى، تجسدها التماثيل والنصب التذكارية.

هذه الصخور والمعادن تخبر الكثير عن تاريخنا، في حضورها واستقامتها، كما في انكسارها وزوالها.

وكما تقول أليكـس فـون تانزيلمان في كتابها “تماثيـل متسـاقطة”، فإن “التماثيل ليست محايدة ولا توجد في الفراغ”. ما يحدد ردود فعلنا تجاه التماثيل هو ما تمثله، ومن رفعها، ومن دافع عنها، ومن قام بإسقاطها ولماذا. كل هذه العوامل نحتاجها لفهم لماذا يشكل سقوط تمثال أهمية أكثر من سقوط تمثال آخر، ولماذا يختلف رد فعل الناس تجاه هذه الأصنام وتحطيمها من ثقافة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.

ولا يحيد تحطيم تمثال “الشهداء” في حلب عن هذه القاعدة، حتى وإن كانت الدوافع مختلفة عن إسقاط تماثيل الأسد التي تشكّل نقطة فارقة في التاريخ السوري الحديث.

وكما يرى خبير الآثار السوري سعد فنصة فإن “كل ما يجري اليوم هو إفرازات نظام سياسي ظلامي حكم سوريا طوال أكثر من ستين عاماً بالشعارات والقمع، ويكفي هذان العنصران السياسيان لإنتاج التطرف والإرهاب الديني والعنف الطائفي في بلد مثل سوريا”.

هذا التطرف، الذي نبت في تربة القمع والظلم، وجد في التماثيل، حتى تلك التي ترمز للعقلانية والفكر، هدفاً لتفريغ غضبه وتطبيق رؤاه المتشددة.

والمفارقة في تمثال “الشهداء” المحطّم أن نحاته، عبد الرحمن مؤقت، لم يكن من الفنانين المقربين للنظام، بل كان معروفاً بمعارضته له.

هذا التدمير، الذي جاء في خضم الحديث عن “التخلص من الأصنام التي وضعها المشركون”، يؤكد التحول من فعل سياسي مشروع ضد رموز النظام إلى فعل ذي طابع ديني متشدد ضد أي عمل فني مجسم.

يقارن سعد قاسم هذا المشهد بما حدث لتمثال صلاح الدين الأيوبي في حلب أيضاً، والذي سُرِق سيفه ورمحه وتعرض لمحاولات تخريب سابقة، رغم كونه “رمزاً وقائداً إسلامياً”. ويرى أن الجدل حول حرمة التماثيل قديم في سوريا، وقد شهد تمثال أهدته الجالية السورية لتكريم يوسف العظمة، جدلاً كبيراً حوله في الثلاثينيات، لأن أعضاء في البرلمان اعتبروا نصب التماثيل حراماً.

يعود قاسم بالتاريخ إلى الإسلام الأول، حين حطم النبي محمد الأوثان في مكة.

يرى قاسم أن الالتباس حدث بين من يقول بأن تحطيم التماثيل كان لأنها أصنام، وبين من يقول أن تلك الأوثان حطمت لما ترمز اليه، وبسبب عبادتها.

ويرى قاسم أن العهد الأموي كان مليئاً بأعمال النحت والتماثيل، كما أن الجدل الديني حول هذا الأمر، حسمه الأزهر في مصر لصالح القول بجواز نصب التماثيل طالما أنها ترمز إلى حقبات سياسية.

في سوريا، خلال السبعينيات، انتشرت عشرات التماثيل لحافظ الأسد، ولم يكن هناك رضا عنها، لأسباب سياسية في بعض الحالات، ولأسباب دينية في حالات أخرى. وبعد سقوط النظام وتحطيم تماثيل الأسد، جرى الخلط بين الدوافع السياسية والدوافع الدينية، كما يقول قاسم. لكن ماذا عن تمثال “الشهداء” في حلب؟

ماذا حدث فعلاً؟

ما يثير الجدل حول حادثة تمثال الشهداء في حلب هو التبريرات التي قدمتها الجهات الرسمية.

فبينما يميل المحافظ في حلب إلى رواية أن “الموضوع كان قلة احترافية وقلة خبرة في نقل تمثال قادت لكسره”، مؤكدًا وجود نية لترميمه وإعادته، يرى أستاذ الفن سعد قاسم أن هذا التبرير لا يخلو من الالتباس. لكنه ميال إلى تصديقه، لأن حوادث أخرى بينت عن حرص لدى النظام الجديد على تدارك الأخطاء والاعتداءات على بعض التماثيل، والتي وضعت في سياقات فردية.

هذه التبريرات، وإن حاولت أن تقدم صورة إيجابية، لا يمكنها أن تخفي حقيقة وجود تيار واسع في المجتمع السوري يرى في التماثيل، حتى تلك التي لا علاقة لها بالنظام السابق، “أصنامًا” يجب إزالتها. وهذا ما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى المشهد.

لقد أظهرت التجارب التاريخية، كما تشير أليكـس فـون تانزيلمـان في كتابها، أن “التاريخ لا يمحى حينما تتم إزالة النصب والتماثيل، بل إن أثرها يبقى كندبة، يمكن إخفاؤها، لكن يصعب إزالتها بالكامل حتى مع مرور وقت كثير”.

إن صمت أبي العلاء المعري، بعد أن قُطع رأسه، هو صرخة بلا صوت، والأثر الذي تركه تحطيم تمثال “الشهداء” في حلب، كلها ندوب تحكي عن ثمن باهظ تدفعه سوريا في خضم هذه الفوضى، من تراثها وتاريخها الغني بالآثار التي لا تقدّر بثمن، والتي تعرضت للتدمير والتشويه في فترة اجتياح “داعش” لمناطق سورية، كما تعرضت لكثير من الانتهاكات على أيدي الميليشيات وعناصر النظام السابق.

ما يحدث اليوم في سوريا من “فوضى غير خلاقة”، كما يصفها فنصة، يبرز التحدي الكبير الذي يواجه الثقافة والتراث. فالفكر الديني المغلق، كما يرى فنصة، “لا يمكنه إنتاج أسس الحياة العصرية في أقانيمها التي تعرفها كل الدول”.

واستمرار استخدام سوريا “المحررة” مسرحاً لـ”التجارب الفصائلية”، بحسب فنصة، يعتبر أمراً خطيراً “قد يؤدي بالبلاد إلى حرب أهلية”.

رامي الأمين

كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/05/cropped-lcon-1-e1748543136485.png?fit=120%2C76&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading