بوتين والشرع.. علاقات الضرورة بعد سقوط الأسد 

الحرة's avatar الحرة2025-07-18

مساء السابع من ديسمبر 2024 سقط بشار الأسد.

دخلت فصائل المعارضة المسلحة العاصمة السورية وأعلنت نهاية حقبة امتدت لأكثر من خمسة عقود من حكم آل الأسد.

خلال آخر عقد ونصف من حكم بشار الأسد، كانت روسيا الحليف الأكثر نفوذا في سوريا.

حتى أيام قليلة قبل انطلاق عملية “ردع العدوان” التي أطاحت بالنظام، كانت الطائرات الروسية تقصف مواقع المعارضة.

لكن كل شيء تغيّر في السابع من ديسمبر. وقفت موسكو تتفرج على سقوط الأسد، ثم أسرعت إلى إعادة تموضع سياسي غير مسبوق.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وافق شخصيا على منح بشار الأسد وعائلته صفة لاجئين لأسباب “إنسانية”. لكن موسكو حرصت على إيصال رسالة واضحة: تحالفها مع دمشق لم يكن مرتبطا بالأسد أو حكومته، بل بسوريا كدولة، في إشارة واضحة إلى استعداد الكرملين للتعامل مع السلطة الجديدة.

على الطرف الآخر، خرج أحمد الشرع، حاكم سوريا الجديد، بعد أسبوعين فقط من دخول دمشق ليشدد على “أهمية التعاون مع موسكو”.

“الحكومة الجديدة في دمشق براغماتية”، تقول آنا بورشفسكايا، الباحثة المتخصصة في السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط.

في تصريح مبكر، وصف الشرع روسيا بأنها “ثاني أقوى دولة في العالم”، وشدد على أنها ذات “أهمية كبيرة” وأن لدمشق “مصالح استراتيجية” معها.

لكن هذا الموقف البراغماتي، من الطرفين، لا يعني بالضرورة أن العلاقات أصبحت طبيعية أو خالية من التوتر.

ثمة ملفات ثقيلة عالقة: القواعد العسكرية الروسية في سوريا، مصير الأسد نفسه، الديون المتراكمة، الأموال المجمدة، وغيرها.

كيف سيتعامل بوتين والشرع مع هذه الملفات المعقدة؟ هذا هو التحدي الذي سيحدد شكل العلاقة بين دمشق وموسكو في المرحلة المقبلة.

خطوات التقارب

لم تنتظر موسكو طويلاً بعد سقوط دمشق. بدأت بإعادة رسم علاقاتها، وانفتحت على قيادة جديدة كانت تعاديها.

أحمد الشرع، الذي يقود الحكومة السورية الجديدة، كان يتزعم هيئة تحرير الشام، الفصيل الذي كانت روسيا، ودول أخرى، قد صنفته تنظيما إرهابيا.

لكن الموقف الروسي تبدّل سريعاً. في يناير 2025، زار نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف دمشق والتقى بالشرع.

حملت الزيارة دلالات سياسية واضحة: موسكو تعترف بالأمر الواقع، ومستعدة للتعاون مع السلطة الجديدة.

بعد أسابيع، خطت موسكو ودمشق خطوة أكبر. في 12 فبراير، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مكالمة هاتفية مع أحمد الشرع، وصفها الكرملين بـ”البناءة”، وأكد فيها بوتين على دعم وحدة سوريا، واستعداد بلاده لاستئناف العلاقات، وتقديم مساعدات إنسانية.

القواعد العسكرية.. العقبة الأولى

تتصدر القواعد العسكرية الروسية قائمة الملفات الشائكة بين موسكو ودمشق، في مرحلة ما بعد الأسد.

روسيا، التي حافظت على وجود عسكري طويل الأمد في سوريا، تدير قاعدتين استراتيجيتين: قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية على الساحل السوري.

تعتبر قاعدة طرطوس تحديداً، ورقة استراتيجية بامتياز. فهي الميناء البحري الوحيد لروسيا في البحر المتوسط، وقد منحتها دمشق لموسكو عام 1971 في عهد حافظ الأسد. لكنها اليوم باتت أكثر أهمية من أي وقت مضى: تُستخدم لعرض القوة الروسية في المتوسط، ولمراقبة التحركات البحرية لحلف الناتو، وتُعد نقطة انطلاق حيوية لدعم نفوذ روسيا المتصاعد في القارة الإفريقية.

أما قاعدة حميميم الجوية، فقد دخلت المشهد في عام 2015، حين حصلت موسكو من نظام بشار الأسد على إذن باستخدامها. ومنذ تدخل روسيا العسكري في سوريا في نوفمبر من ذلك العام، تحولت القاعدة إلى غرفة عمليات مركزية للقوات الروسية، تدير منها موسكو ضرباتها الجوية وتنسق وجودها العسكري على الأرض.

تبدو روسيا مصممة على الحفاظ على القاعدتين، لكنها مستعدة للتفاوض على تفاصيل بقائهما.

في الجهة المقابلة، تطالب حكومة دمشق، بقيادة الشرع، بمراجعة العقود التي أبرمت في عهد حافظ وبشار الأسد.

لكن دمشق لا تكتفي بالمطالبة فقط، بل تتحرك.

بعد شهر فقط من وصولها إلى السلطة، ألغت الحكومة السورية عقد إدارة ميناء طرطوس الذي كان قد مُنح لشركة “أس تي جي سترويترانسجاز” الروسية عام 2019، لمدة 49 عاما.

عقد الميناء منفصل عن القاعدة البحرية الروسية في طرطوس. قالت دمشق إن الجانب الروسي لم يوفِ بالتزاماته في ما يتعلق بالاستثمار في البنية التحتية في الميناء، فيما لم تتخذ موسكو أية خطوة علنية تجاه إلغاء العقد.

روسيا تبدو، مع حاجتها لتأمين قواعدها، أكثر استعداداً لتقديم تنازلات. أولا، في شروط الاحتفاظ بهذه القواعد، وثانيا في ملفات أخرى مثل الديون أو الأموال المجمدة أو إعادة الإعمار.

دمشق بدورها، لم تعلن معارضة مبدئية للوجود الروسي. بل على العكس، أبدت إشارات إلى انفتاح مشروط. ولمح وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، إلى إمكانية منح موسكو حقوقاً في قواعدها مقابل “فوائد واضحة لسوريا”.

لتخفيف الضغوط السورية، يمكن لروسيا أن تلوّح بخيارات بديلة عن قواعدها في سوريا، أبرزها توسيع وجودها في ليبيا والسودان. فليبيا تعتبر المحور الرئيسي لقوات “الفيلق الإفريقي” الروسي، وهي قوات شبه عسكرية أنشئت لتخلف مجموعة “فاغنر” في إفريقيا.

وفي السودان، يراود روسيا طموح قوي لإقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر.

مع ذلك، تبقى هذه الخيارات الآن أدوات ضغط أكثر منها خططاً فعلية للانسحاب من سوريا.

الوضع الاستراتيجي الفريد الذي توفره القواعد الروسية في حميميم وطرطوس لا يمكن تعويضه بسهولة. سوريا تمنح روسيا منفذاً مباشراً إلى شرق المتوسط، وحضورا قويا في قلب الشرق الأوسط، بالإضافة إلى بنية تحتية عسكرية جاهزة كلفت موسكو سنوات من التوسع والاستثمار.

يعتقد ديفيد دي روشي، الأستاذ المساعد في مركز دراسات الأمن في منطقة الشرق الأدنى وجنوب آسيا، أن موسكو ودمشق ستتوصلان في نهاية المطاف إلى اتفاق بشأن القواعد العسكرية. لكنه يلفت إلى أن هذا الاتفاق سيحمل في طياته “قيوداً كبيرة على روسيا”، تعكس موازين القوى الجديدة.

غوردن هان، المتخصص في الشأن الروسي من معهد هوفر في الولايات المتحدة، يرجح هو الآخر إمكانية الوصول إلى اتفاق بشأن القواعد، شريطة ألا يبادر النظام السوري إلى دعم أي حركة جهادية عالمية، “خصوصًا تلك العناصر الموجودة في روسيا”.

لكن ماذا لو لم يتم التوصل إلى اتفاق؟

هنا، يقول دي روشي لـ”الحرة”: “أعتقد أن قاعدة حميميم ستصبح غير قابلة للاستمرار. في المقابل، من المحتمل أن تستمر قاعدة طرطوس، مثلما لا تزال للولايات المتحدة قاعدة في غوانتانامو مستمرة دون موافقة الحكومة الكوبية”.

الديون مقابل الأموال المجمدة؟

يتوقع أن يشكل الديْن الروسي أيضا واحدة من أعقد أوراق التفاوض بين الجانبين. وتتصدر روسيا قائمة الدول الدائنة لسوريا.

وتتراوح ديون سوريا الخارجية عموما بين 20 و23 مليار دولار، بحسب وزارة المالية السورية.

ترى الحكومة الجديدة أن الديون الروسية يجب أن تُلغى أو يُعاد هيكلتها على الأقل، خاصة أن جزءاً كبيراً منها استُخدم لتمويل عمليات عسكرية ضد المدنيين والمعارضة.

“أعتقد أن النظام السوري سيقول إن هذه ليست ديون سوريا. هذه ديون بشار الأسد”، يقول ديفيد دي روشي. ويضيف أن هذه الديون يمكن أن تدخل في صفقة تبادلية مقابل الأموال المجمدة.

“أعيدوا إلينا أموالنا، وسنقوم بتعويضكم من أموالنا”، يوضح.

وتقول الحكومة السورية، وتقارير صحافية، إن نظام الأسد هرَّب إلى روسيا خلال سنوات الحرب ملايين الدولارات، بعضها عبر رحلات جوية مباشرة.

“أعتقد أن ما سيحدث على الأرجح هو أن الأموال الموجودة في روسيا، ستبقى في روسيا. في المقابل ستتشبث دمشق هي الأخرى بأن الديون ليست ديونها، بل ديون بشار الأسد”.

غوردن هان هو الآخر يرى أن روسيا يمكن أن تتغاضى عن ديونها لسوريا مقابل الحفاظ على وجودها العسكري. “ستُصنف روسيا هذه الخطوة أيضا على أنها مساهمة من موسكو في إعادة إعمار سوريا”، يقول.

آنا بورشفسكايا تقول أيضا إن الديون “شكل آخر من أشكال النفوذ الذي تمتلكه روسيا في سوريا. فقد تعمد موسكو إلى شطب الديون مقابل استمرار التعاون العسكري والاقتصادي معها”.

مصير الأسد.. ورقة تفاوضية أم عبء سياسي؟

بعد فراره من دمشق، انتقل بشار الأسد وعائلته إلى روسيا، ومُنح اللجوء لأسباب “إنسانية”، في خطوة وافق عليها بوتين شخصيًا.

ضمنت هذه الخطوة لموسكو سلامة حليفها السابق، لكنها وضعتها في موقف صعب مع القيادة الجديدة في دمشق، التي تطالب صراحة بتسليمه للمحاكمة.

ترفض روسيا تماما تسليم الأسد، وهو ما أكده الشرع نفسه في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز.

موسكو تقول إن الأسد يقيم في روسيا مقابل ألا يقوم بأي نشاط إعلامي أو سياسي، مشددة أنها لن تقبل بتسليمه ما دام لم يخالف شروط اللجوء.

بالنسبة لحكومة أحمد الشرع، يتجاوز تسليم الأسد ملف العدالة الانتقالية، بل هو رسالة رمزية تؤكد القطع الكامل مع النظام السابق.

وحدة سوريا… تحت الضغط

رغم التباينات العميقة، تتفق موسكو ودمشق على “وحدة سوريا”. الطرفان معا يؤكدان التزامهما بسيادة البلاد وسلامة أراضيها، في وقت تتعرض فيه سوريا لضغوط خارجية متزايدة.

في الجنوب، تواصل إسرائيل غاراتها الجوية. وفي الشمال، تسيطر تركيا فعلياً عبر فصائلها التي أصبحت رسميا جزءا من الجيش السوري.

داخليا كذلك، لا تزال البلاد ممزقة، ولم تستطع دمشق بعد الوصول إلى تسويات دائمة تنهي الخلافات مع العلويين والأكراد والدروز.

لكن، رغم موقفها الداعم لوحدة سوريا، لم تقدم موسكو حتى الآن أي دعم سياسي أو اقتصادي يرسّخ سلطة الحكومة المركزية الجديدة، كما لم تساهم في ضخ أي أموال لإعادة الإعمار، أو لعب دور فاعل في توحيد مؤسسات الدولة.

سقوط الأسد لم يسقط معه فقط رجل الكرملين في دمشق، بل هزّ واحدة من أكثر تحالفات روسيا رسوخاً في الشرق الأوسط.

لكن موسكو سارعت إلى إعادة التموضع، وبدأت بتشكيل علاقات جديدة مع الحكام الجدد في دمشق.

في المقابل، وضعت دمشق جانبا عداوتها المطلقة لموسكو، بحثا عن اعتراف دولي واسع، لا سيما من أعضاء دائمين في مجلس الأمن مثل روسيا.

لكن العلاقات بين البلدين ما تزال في بدايتها، والملفات العالقة لن تحل دون تكلفة، ولا دون معركة دبلوماسية طويلة.

روسيا وسوريا تعيدان إذن رسم علاقتهما من جديد.

لكن هذه المرة، دون الأسد.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading