الأمن أولا في دولة واحدة.. لماذا يرفض اليمين الإسرائيلي حل الدولتين؟

مدينة القدس، أواخر فبراير من العام 2015، نير بركات، رئيس بلدية المدينة آنذاك يتجول مع مرافقه الشخصي.

فجأة، يظهر في المشهد شاب فلسطيني يلوّح بسكينه، ويهجم في محاولة لطعن شاب حريدي. لم يتردد نير بركات في الاندفاع نحو المهاجم. طرحه أرضا وسيطر عليه بمساعدة مرافقه.

تعكس هذه الحادثة جوهر رؤية اليمين الإسرائيلي للأمن: مسؤولية فردية وجماعية لا تتهاون، وبأن القوة والتدخل الأمني السريع، هما السبيلان الوحيدان للتعامل مع الفلسطينيين، في الداخل، كما في الضفة الغربية وقطاع غزة.

السطوة الأمنية هي كل شيء، بحسب الأيديولوجيا اليمينية، التي ترفض حل الدولتين، وتتعامل مع المسألة الفلسطينية كملف أمني، لا يُحل إلا باستخدام القوة.

يتولى نير بركات اليوم منصب وزير الاقتصاد والصناعة في حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية.

فكرته عن الأمن وتصرفه مع التهديدات، لا يبتعدان عن سلوكه العفوي في ساحة القدس قبل أكثر من عشر سنوات. وإذا رجعنا عقداً واحداً إضافيا إلى العام 2005، يمكن أن نتتبع تحولات اليمين الإسرائيلي في الأعوام العشرين الماضية، وكيف أثر ذلك على رؤيته لحل الدولتين.

يشكّل فك الارتباط الإسرائيلي أحادي الجانب عن قطاع غزة في عام 2005 نقطة تحول مفصلية. حينذاك كان اليميني آرييل شارون، أحد مهندسي الحركة الاستيطانية، يبادر، كرئيس للحكومة، إلى الانسحاب من القطاع، وهدفه من ذلك “تجميد عملية السلام” ومنع إقامة دولة فلسطينية، لكن الرياح التي تلت هذه العملية، لم تأت بما تشتهيه سفن اليمين الإسرائيلي.

كان بنيامين نتنياهو، وزير المالية حينها، قد تنبّه الى سرعة الرياح. أول ما فعله كان الاستقالة من حكومة شارون احتجاجاً على الانسحاب، معتبراً إياه خطأً أمنياً فادحاً سيخلق “قاعدة للإرهاب” في القطاع.

تلك الاستقالة لم تكن مجرد موقف أيديولوجي، بل كانت مناورة سياسية محسوبة مكنته من ضمان دعم أكبر من القاعدة المتشددة لحزب الليكود.

وأدى رحيل المعتدلين مع شارون إلى حزب كاديما الجديد في نوفمبر 2005 إلى “تطهير” الليكود فعليا من عناصره الأكثر اعتدالاً أو وسطية، تاركا وراءه مجموعة أيديولوجية من المتشددين الأكثر تجانساً، ما مهد الطريق لنتنياهو لقيادة الحزب نحو اليمين.

صعود اليمين المتطرف

شهدت الفترة التي تلت عام 2005 صعودا غير مسبوق لتحالف الصهيونية الدينية، الذي يضم أحزابا مثل “عوتسما يهوديت” و”الحزب الديني الوطني – الصهيونية الدينية”. وصعدت شخصيات متجذرة في الأيديولوجيا المتطرفة، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، إلى الصدارة.

سموتريتش، الذي عارض بشدة إقامة دولة فلسطينية، وينكر وجود الشعب الفلسطيني، يدعو صراحة إلى “هجرة أعداء دولة إسرائيل”. أما بن غفير، المعادي للعرب بشدة، فيدعو إلى طرد الفلسطينيين.

يدل صعود هذه الشخصيات إلى مناصب وزارية بارزة على ترسيخ عميق للأيديولوجيات التي كانت تعتبر في السابق هامشية أو حتى محظورة. هذا التحول يعني أن هذه الآراء لم تعد محصورة في هوامش المجتمع الإسرائيلي، بل إنها تشكل وتدفع السياسة الحكومية بنشاط، ما يمثل تحولًا جوهريًا في ما يعتبر مقبولاً ومؤثراً داخل الخطاب السياسي الإسرائيلي.

قبل أسبوعين، خلال حفل عشاء في البيت الأبيض، أحال الرئيس الأميركي دونالد ترامب سؤالاً من أحد الصحفيين حول ما إذا كان يعتقد بإمكانية تحقيق “حل الدولتين” بين إسرائيل وفلسطين إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.

وكشف جواب نتنياهو السمات الأساسية لتصور اليمين الإسرائيلي للحل مع الفلسطينيين. قال نتنياهو: “أعتقد أنه يجب أن يحصل الفلسطينيون على جميع الصلاحيات لحكم أنفسهم، ولكن دون أن تهددنا أي من هذه الصلاحيات. هذا يعني أن بعض الصلاحيات، مثل الأمن العام، ستبقى دائما في أيدينا”. وأوضح: “لن يوافق أحد في إسرائيل على أي شيء آخر، لأننا لن ننتحر”.

لكن ما الذي يعنيه نتنياهو بـ “جميع الصلاحيات لحكم أنفسهم”؟

ليس هناك تجارب عديدة في هذا المجال. لكن على الغالب يلمح نتنياهو إلى تجربة “إمارة الخليل” التي رعاها نير بركات مع عشائر الخليل، وهي نموذج من الحكم المحلّي، تذكّر بتجربة “روابط القرى” في الثمانينيات، والتي كانت تهدف إلى ترسيخ السيطرة الأمنية الإسرائيلية، والتعامل مع السكان الفلسطينيين ككيانات متفرقة، بنماذج حكم محلية تشبه عمل البلديات، على أن تكون هذه الروابط تحت الرقابة الأمنية الصارمة من الإسرائيليين.

حل الدولة الواحدة: إمارة الخليل نموذجا

مؤخرا، وقّع وديع الجعبري أحد وجهاء عشيرة الجعبري في الخليل، و4 آخرين من شيوخ الخليل البارزين رسالة موجهة إلى بركات، يتعهدون فيها بالسلام والاعتراف الكامل بإسرائيل دولة يهودية، ويطالبون بإنشاء إمارة خاصة بمحافظة الخليل، تنضم بدورها إلى اتفاقات أبراهام.

وتضيف الرسالة ان إمارة الخليل “تعترف بدولة إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وتعترف دولة إسرائيل بإمارة الخليل ممثلة للسكان العرب في قضاء الخليل”.

يتسم مفهوم “الإمارات” بمنع العمل المسلح و”عدم التسامح المطلق” مع الإرهاب. وتعتمد المبادرة على الاعتقاد بأن العشائر قادرة على حكم مناطقها بفعالية، وأن نموذج “الإمارات” المستقلة لكل مدينة في الضفة الغربية هو الحل الأمثل، مستلهمين من نجاح دول الخليج التي تحكم كلا منها عائلة واحدة تتوارث الحكم.

في صميم مقاربة اليمين الإسرائيلي، يقول مناحيم كلاين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بار إيلان” لـ”الحرة”، يوجد إنكار أساسي لفكرة “الأمة الفلسطينية”.

يفترض هذا الاعتقاد المتجذر أن القومية الفلسطينية “وهمية”. هذه الفرضية، التي يعتبرها كلاين “قراءة خاطئة للتاريخ”، تدعم استعداد اليمين لمتابعة حلول تقدم مظهراً من “الحكم الذاتي” أو “الاستقلال بفوائد” للمجتمعات الفلسطينية.

تُعد سابقة “روابط القرى” التاريخية نقطة مرجعية حاسمة. فكما يشير إيهود إيران، المحاضر البارز في كلية العلوم السياسية بجامعة حيفا، فشلت المحاولات السابقة لتعزيز القيادات المحلية المتعاونة مع اسرائيل في النهاية بسبب افتقارها للشرعية بين عامة السكان الفلسطينيين الذين اعتبروها “عميلة”.

أنشأت إسرائيل “روابط القرى” في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات بهدف خلق قيادة فلسطينية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تعتبرها إرهابية. سعت إسرائيل لدعم شخصيات محلية وقادة عشائر في الضفة الغربية وغزة لتقديم خدمات مدنية وإدارة شؤون السكان تحت الإشراف الإسرائيلي.

واعتمدت إسرائيل على الهياكل العشائرية والقيادات الريفية، ومنحتهم صلاحيات بلدية واسعة، بما في ذلك إصدار تصاريح البناء والسفر. كما قدمت إسرائيل الدعم المالي وحتى الأسلحة لبعض قادة هذه الروابط.

لكن “روابط القرى” واجهت رفضاً شعبياً فلسطينياً واسعاً، واعتبرت “أدوات للاحتلال” و”المتعاونين” معه. وأدت المقاومة الفلسطينية لهذه القرى والعنف الموجه ضد قادتها إلى تآكل شرعيتها وفعاليتها، وتفككت في النهاية بحلول منتصف الثمانينيات، مع حل آخرها (رابطة قرى الخليل) في فبراير 1988.

من وجهة نظر اليمين الإسرائيلي، هناك ميزتان لهذه الفكرة كما يشرحها إيهود إيران: “أنها تسمح بالسيطرة الإسرائيلية في المنطقة، مع قدر من الحكم الذاتي الفلسطيني. وهذا من شأنه أن يضعف الادعاءات بأن إسرائيل تخضع الفلسطينيين”. على المدى الطويل، يأمل البعض في اليمين، بحسب الباحث الإسرائيلي “أن تضعف هذه الهويات المحلية هويتهم الوطنية الفلسطينية الأوسع”.

ويوضح كلاين من جهته أن الحركة الوطنية الفلسطينية، المتجذرة في البلدات والمدن، هزمت بشكل حاسم الحلول القائمة على “روابط القرى”. ويجادل بأنه “لا توجد نقطة عودة للرجوع إلى ما قبل قومية المنطقة”، وأن وجود منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية داخلياً، إلى جانب الرغبة الفلسطينية الواسعة في تقرير المصير والغضب العميق من الإجراءات الإسرائيلية، يجعل آفاق التعاون الحالية “ضئيلة جداً”.

يقدم يزيد صايغ، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، نقداً أكثر حدة لمفهوم “روابط القرى” أو الإمارات، رافضاً هذه المقترحات تماماً معتبراً إياها “عديمة الجدوى لأي حل حقيقي”.

ويجادل صايغ بأنه ليس المقصود من روابط القرى “حل أي شيء”، بل تمثل “تشويهاً وتضليلاً متعمداً” للمجتمع الفلسطيني. فمن خلال التركيز فقط على الحكم القائم على العشائر أو مستوى القرى، تتجاهل هذه المبادرات “الغالبية العظمى من المجموعات الاجتماعية، مثل سكان المدن، وطبقة رجال الأعمال، وما إلى ذلك”، ما يكشف عن محاولة متعمدة لحجب حقائق الاحتلال العسكري الإسرائيلي وإنكار الحقوق الأساسية لخمسة ملايين فلسطيني.

ويحذر صايغ من أن مثل هذه المقترحات لا يمكنها إلا أن “تُثير التفتت والعنف داخل المجتمع الفلسطيني”، وتعمل بمثابة “خدعة ساخرة لإخفاء وتبرير العنف المكثف من قبل المستوطنين والقوات الإسرائيلية”.

لكن “حل الإمارات” يتوافق بشكل كبير مع الأهداف الاستراتيجية لليمين الإسرائيلي، والقائمة بشكل أساسي على منع قيام دولة فلسطينية.

يتفق جميع الخبراء الذين تمت مقابلتهم على أن الهدف الأساسي هو منع ظهور دولة فلسطينية قابلة للحياة. ويبرز إيهود إيران أن هذا النموذج يسمح “بالسيطرة الإسرائيلية على المنطقة، مع قدر ضئيل من الحكم الذاتي الفلسطيني”، وبالتالي “يُضعف المزاعم بأن إسرائيل تُخضع الفلسطينيين”.

ومن خلال تجزئة المجتمع الفلسطيني إلى كيانات أصغر ومحلية، يتم تحييد إمكانية قيام دولة فلسطينية موحدة وذات سيادة قادرة على بسط السيطرة على أراضٍ متصلة بشكل فعال.

أيضاً يخدم هذا الحل مشروع توسيع المستوطنات، الذي ينادي به اليمين المتطرف.

ويسهّل “حل الإمارات” استمرار التوسع الاستيطاني. وكما يوضح مناحيم كلاين، فإن الاستيطان يلعب دوراً محورياً في دفع الفلسطينيين الى مغادرة مناطقهم وفتح المجال للمستوطنات اليهودية. وبحسب كلاين، فإن إنشاء جيوب (إمارات) متفرقة يجعل من السهل على إسرائيل توسيع وجودها بينها، دون مواجهة تحد سياسي أو إقليمي فلسطيني موحد.

التوسع الاستيطاني ليس مجرد نمو عضوي، بحسب رؤية اليمين الإسرائيلي، بل هو استراتيجية متعمدة ومتزايدة لضم الضفة الغربية بحكم الأمر الواقع، مصممة لجعل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتواصلة جغرافياً وسياسياً، أمرا مستحيلا. هذا يتجاوز مجرد “معارضة” حل الدولتين؛ إنه يفكك بنشاط متطلباته المادية، ما يشير إلى استراتيجية طويلة الأجل نحو واقع الدولة الواحد، كما يراها اليمين الإسرائيلي الحاكم حالياً في إسرائيل.

وبحسب إيهود إيران، فإن الهويات الفلسطينية المحلية المتفرقة إلى قرى أو إمارات، “تُضعف الهوية الوطنية الفلسطينية الأوسع”.

ومن خلال التأكيد على الحكم القائم على العشائر، يهدف اليمين إلى تمزيق الوحدة الفلسطينية، وتخفيف التطلعات الوطنية، وفي النهاية تقليل الدافع نحو كيان وطني موحد.

وتؤكد ليلى فرسخ، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس – بوسطن، هذا الأمر، مشيرة إلى أن مثل هذا التحول “سيؤجل مشروع الاستقلال الفلسطيني إلى أجل غير مسمى”، وقد يترك الفلسطينيين في “دولة افتراضية ستبقى دائماً افتراضية”، على غرار وضع الأكراد.

وتحذر فرسخ من أنه إذا “تم نسخ نموذج الإمارة في كل مكان”، فإن “أهمية فلسطين على الساحة العالمية ستتضاءل بشكل كبير”. فالقيادة المجزأة “ستفتقر إلى الصوت الموحد والقدرة المؤسسية على الانخراط بفعالية في الدبلوماسية الدولية، ما يقلص بشكل كبير التمثيل السياسي الفلسطيني في الخارج”.

ما الحل إذا لم يكن “حل الدولتين”؟

كما أوضح رئيس الوزراء نتنياهو للصحافيين في البيت الأبيض، يتمثل بديل حل الدولتين في رؤية أن “يحكم الفلسطينيون أنفسهم، ولكن دون تهديد إسرائيل، مع بقاء السيطرة الأمنية الشاملة في أيدي إسرائيل”.

تعتقد ليلى فرسخ أن هذا كان التفكير الإسرائيلي “طوال الوقت”، وهو موقف ثابت منذ كامب ديفيد عام 1979 “لإنكار السيادة الفلسطينية”. وبالتالي، فإن نموذج “الإمارة” لا يمثل حلاً نهائياً مبنياً على تقرير المصير، بل إطاراً دائماً للحكم الذاتي المحدود والمجزأ تحت الهيمنة الإسرائيلية.

لقد تآكلت فكرة “الأرض مقابل السلام” تدريجياً، والتي كانت حجر الزاوية في اتفاقيات أوسلو وغيرها من جهود السلام السابقة. ليحل محلها نهجٌ يركز على “الأمن مقابل الأمن”، وعلى السيطرة المطلقة على الأرض، حتى لو أدى ذلك إلى واقع “الدولة الواحدة بحكم الأمر الواقع”. ففي عيون اليمين، لم تعد الدولة الفلسطينية حلاً ممكناً، بل أصبحت تهديداً محتملاً، و”قاعدة للإرهاب” قد تنطلق منها الصواريخ والعمليات العسكرية، كما يرون في تجربة غزة بعد الانسحاب.

وقد عزز من ذلك هجوم السابع من أكتوبر2023 الذي شنته حماس، وبات اليمين الاسرائيلي يرى في كل شبرٍ من الأرض المتنازع عليها خط دفاع أخير، وفي كل مستوطنة نقطة ارتكاز أمنية لا يمكن التخلي عنها، بل يجب توسيعها وتثبيتها.

رامي الأمين

كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/05/cropped-lcon-1-e1748543136485.png?fit=120%2C76&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading