على مدى أكثر من أربعة عقود كان ملف “حزب العمال الكردستاني” أحد أبرز مصادر التوتر في العلاقات العراقية – التركية.
رفع الحزب، التركي المعارض، السلاح بوجه أنقرة، منذ مطلع الثمانينيات، انطلاقا من الأراضي العراقية.
ومع شروع مسلحي الحزب في التخلي عن السلاح، تبدو الفرصة لعلاقات عراقية – تركية، من دون مشاكل، ممكنة جدا.
في 11 يوليو الجاري، أحرق عشرات من مسلحي حزب العمال، في مشهد رمزي، بنادقهم استجابة لنداء زعيم الحزب المعتقل في تركيا، عبدالله اوجلان لنزع السلاح في سياق اتفاق سلام مع أنقرة.
الوجود العسكري التركي في العراق
بعد عام 2003 تطورت العلاقات العراقية التركية بشكل ملحوظ، خصوصا على المستوى الاقتصادي.
رغم استمرار وجود ملفات شائكة، مثل ملف المياه، والقواعد العسكرية التركية في شمال العراق، سجل ميزان التبادل التجاري بين البلدن أرقاما غير مسبوقة.
يرجح الباحث التركي، إسلام أوزكان، احتمال تطور العلاقات بين بغداد وأنقرة “إذا اكتمل نزع سلاح حزب العمال الكردستاني”.
لكنه يستبعد انسحاب الجيش التركي من العراق “في القريب العاجل”.
“ليس هناك معلومات عن وجود تنسيق مباشر بين الحكومة العراقية وتركيا بشأن إنهاء الوجود العسكري والقواعد التركية في العراق على المدى القريب”، يقول.
و”يبدو أن هذا التنسيق يتم بشكل أكبر مع حكومة أربيل، حيث تعمل الاستخبارات التركية بشكل وثيق مع السلطات الكردية”.
يقول أوزكان إن تركيا والعراق وقعا في عامي 2023 و2024 اتفاقيات بشأن التعاون الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية”.
“هذا النهج التسهيلي من جانب بغداد ومساهماتها في العملية قد يكون دافعا لأنقرة كي تتخذ موقفا أكثر إيجابية بشأن سحب قواتها من قاعدة بعشيقة”، يضيف.
ولتركيا أكثر من 200 نقطة عسكرية في شمال العراق، مع بنية تحتية شبه دائمة.
ذلك يجعل من الانسحاب على المدى القريب أمرا بالغ الصعوبة، يقول المحلل التركي.
ويعتقد رئيس مركز التفكير السياسي العراقي ، الخبير السياسي إحسان الشمري، هو الآخر، أن “تركيا لن تنسحب سريعا من العراق، خصوصا وأن اتفاق السلام مع حزب العمال لا يزال في بدايته.
وتمتد الحدود الفاصلة بين العراق وتركيا على مدى أكثر من 350 كيلومترا، عبر جبال ومرتفعات وعرة في الغالب.
وتنتشر قوات من الجيش التركي داخل أراضي إقليم كردستان – العراق بعمق نحو 40 كيلومترا. ووصلت القوات التركية إلى قرى وبلدات قضاء العمادية التي تبعد نحو 20 كيلومترا عن مركز محافظة دهوك.
ويلفت أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية ببغداد، عصام الفيلي، إلى أن عملية السلام بين انقرة وحزب العمال الكردستاني إذا اتخذت مسارها المفترض ستمهد لمزيد من الاستقرار والعلاقات الاقتصادية المبنية على المصالح المشتركة بين العراق وتركيا.
ويشدد الفيلي على ضرورة أن تتحرك الحكومة العراقية لبحث إنهاء الوجود العسكري التركي في شمال العراق.
” المبررات التي كانت تعلنها تركيا سابقا هي لمواجهة نشاط حزب العمال الكردستاني، وبعد إلقاء العمال الكردستاني كل سلاحه، من الثابت والبديهي انتهاء التواجد العسكري التركي”.
ويشير الفيلي الى أن أبرز عقبة أمام إنهاء الوجود العسكري التركي في الأراضي العراقية، يتمثل في أن أنقرة ترى أن حضورها داخل العراق هو جزء من عملية التوازن أمام النفوذ الإقليمي والإيراني في العراق.
لكن الخبير في العلاقات الدولية، مهند الجنابي، يجد أن وجود الجيش التركي في العراق هو ضمن تنسيق وتعاون عالي المستوى بين العراق على المستوى الاتحادي وربما إقليم كردستان، والحكومة التركية.
يقول الجنابي لـ”الحرة” إن “بغداد وأنقرة ناقشتا المشاكل العالقة والمسائل المتعلقة بـ PKK، وربما حصلت بغداد على وعود من أنقرة بأن تسحب جيشها من العراق بعد إنجاز عملية السلام وتسليم مسلحي العمال سلاحهم بالكامل”.
عملية سلام متأنية
وعلى الرغم من أن عملية السلام بين أنقرة والعمال الكردستاني بدأت خطواتها الأولى بإعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه في 12 مايو الماضي، وتسليم أول مجموعة من قادته ومقاتليه السلاح، إلا إن العملية ما زالت تسير بتأن حذر.
ويلفت الباحث التركي إسلام أوزكان إلى أن البطء الذي تشهده العملية ناجم عن سعي الطرفين إلى عدم تكرار التجارب السابقة الفاشلة في ما يتعلق بالسلام.
تنتظر العلاقات بين بغداد وأنقرة تحولا نحو مرحلة جديدة، تتركز فيها الأولوية على الاستثمار والتعاون الاقتصادي والتجاري، إلى جانب ملف المياه، الذي لا يزال من أبرز القضايا العالقة بين البلدين منذ سنوات.
ويُلمّح الباحث الشمري إلى أن العلاقات العراقية–التركية كانت قائمة في السابق على ثلاثية: الأمن، والاقتصاد، والسياسة. لكن مع التقدم في ملف نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، يُتوقّع أن تدخل العلاقات مرحلة جديدة، تُبنى على ركيزتي السياسة والاقتصاد، مع التركيز على توسيع التبادل التجاري.
ومع ذلك، فإن الانتقال إلى هذه المرحلة يظل مشروطا بنجاح عملية نزع سلاح حزب العمال، وحلّه بالكامل، وخروجه من الأراضي العراقية.
من جانبه، يرى الباحث التركي إسلام أوزكان أن تمكّن العراق من أداء دور أكثر فاعلية في دعم عملية السلام سيساهم في تعزيز التعاون بين بغداد وأنقرة، وأشار إلى أن النهج السابق للحكومة العراقية ساهم في تقليص التوترات بين الطرفين.
ويلفت أوزكان إلى أن قدرة العراق على تحقيق توازن دقيق في علاقاته مع كل من إيران وتركيا ستُسهم في تعزيز فرص التعاون الإقليمي وتحديد مسار العلاقات الثنائية.
ويبرز ملف المياه كأحد أبرز أولويات العراق في المرحلة المقبلة، إذ تسعى بغداد إلى التوصل لاتفاق مع أنقرة يضمن زيادة الإطلاقات المائية من نهري دجلة والفرات، اللذين ينبعان من الأراضي التركية، على خلفية الانخفاض الحاد في منسوب المياه بسبب بناء تركيا عددا من السدود في السنوات الأخيرة.
ويُعد هذا الملف من أكثر القضايا الاستراتيجية التي يطمح العراق إلى تسويتها مع الجانب التركي.
وفي هذا السياق، يشدد الخبير عصام الفيلي على ضرورة أن يستغل العراق المرحلة الحالية لعقد اتفاقيات مائية، تُدرج ضمن استراتيجية الانفتاح في العلاقات مع أنقرة، واصفا الظروف الحالية بـ”الفرصة الذهبية” التي يجب ألا تُهدر.
ودعا الفيلي إلى أن تكون جميع الاتفاقيات المتعلقة بالمياه برعاية الأمم المتحدة أو إحدى الدول الكبرى، لضمان التزام الطرفين وتنفيذ بنودها على نحو مستدام.
الاقتصاد على رأس القائمة
خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق العام الماضي، وقع الجانبان 26 اتفاقية في مجالات متنوعة، من بينها مذكرة تفاهم بشأن الإطار الاستراتيجي، وأخرى حول التعاون في مجال المياه. وشملت الاتفاقيات قطاعات التجارة، السياحة، التعليم، الصحة، الأمن، العلوم، التكنولوجيا، الاستثمار، والرياضة.
وأكد أردوغان، خلال مؤتمر صحفي في بغداد عقب توقيع الاتفاقيات، أن حجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع إلى 20 مليار دولار سنويا، وشدد على أن بلاده “مصممة على المشاركة في مشروع طريق التنمية لتحقيق التكامل التجاري والاقتصادي”.
ويعد مشروع “طريق التنمية” من أبرز الرهانات الاقتصادية العراقية، إذ يهدف إلى ربط تركيا وأوروبا شمالا بالخليج العربي جنوبا، عبر شبكة نقل برية وسككية تمر بالعراق، لنقل البضائع بين الشرق والغرب.
ويؤكد أوزكان أن هذا المشروع يمكن أن يعزز الترابط الاقتصادي بين بغداد وأربيل وأنقرة، ويعمّق علاقات الاعتماد المتبادل، خاصة إذا ما تم ربطه بخط أنابيب كركوك – جيهان. مضيفا أن هذه المشاريع من شأنها أن تعزز موقع تركيا كمركز استراتيجي للطاقة في ظل سعي أوروبا لتنويع مصادر الغاز بعيدا عن روسيا.
ويتطلع العراق كذلك إلى تفعيل تصدير النفط عبر الأراضي التركية، من خلال إعادة تشغيل خطين استراتيجيين:
- الأول يمتد من كركوك عبر نينوى إلى الحدود التركية، والثاني يمر من كركوك عبر إقليم كردستان إلى ميناء جيهان.
ويشير خبير النفط والغاز، كوفند شيرواني، إلى وجود أربعة ملفات أساسية تشكّل جوهر العلاقات العراقية – التركية: الأمن، المياه، التجارة، والنفط.
ويقترح شيرواني بحث هذه الملفات في حزمة واحدة لضمان مكاسب متبادلة، موضحا أن تركيا لديها مصالح أمنية وتجارية ونفطية في العراق، بينما يمتلك العراق مصلحة حيوية في ملف المياه. ومن هنا، يمكن التوصل إلى تسوية شاملة: امتيازات تجارية وتعاون أمني لتركيا، مقابل تعاون مائي ونفطي لصالح العراق.
لكن في تطور لافت، أعلن الرئيس التركي مؤخرا إنهاء اتفاقية النفط الموقعة بين البلدين عام 1973، والتي تُعد من أقدم التفاهمات الاقتصادية بين أنقرة وبغداد. وبحسب القرار الرئاسي التركي، سيتوقف العمل باتفاقية خط أنابيب النفط الخام، وجميع البروتوكولات الملحقة بها، اعتبارا من 27 يوليو 2026.
هذا القرار يضيف بُعدا جديدا لمعادلة الطاقة والتفاوض بين البلدين، ويضع مستقبل التعاون النفطي في دائرة إعادة الترتيب.
مسودة جديدة.. لا قطيعة
في أعقاب إعلان أنقرة إنهاء اتفاقية خط أنابيب النفط المبرمة مع بغداد منذ عام 1973، سارعت وزارة النفط العراقية إلى توضيح الموقف. وفي بيان نقلته الوكالة العراقية الرسمية، كشفت الوزارة أن وزارة الطاقة التركية وجّهت إليها رسالة أعربت فيها عن رغبتها في تجديد الاتفاق النفطي، وأرفقت بها مسودة اتفاقية جديدة للتعاون في مجال الطاقة، أشمل من السابقة.
المسودة المقترحة من الجانب التركي تتضمن التعاون في مجالات النفط، والغاز، والصناعات البتروكيمياوية، والكهرباء، في إطار سعي أنقرة وبغداد إلى توسيع آفاق الشراكة الثنائية في قطاع الطاقة.
ويرى خبير الطاقة كوفند شيرواني أن إنهاء الاتفاقية لا يعني وقفا فوريا لصادرات النفط، خصوصا في ضوء الاتفاق الأخير بين بغداد وأربيل، الذي ينص على استئناف تصدير نفط الإقليم بواقع 230 ألف برميل يوميا، مقابل التزام الحكومة الاتحادية بدفع رواتب موظفي الإقليم.
ويؤكد شيرواني أن تركيا لا ترغب فعليا بوقف عمليات التصدير عبر خط الأنابيب العراقي – التركي، لكونها تدرّ عليها إيرادات سنوية بملايين الدولارات، تشمل أجور التشغيل والصيانة، وحراسة الأنابيب، وإدارة محطات الضخ والتخزين والتفريغ في ميناء جيهان. وهذه المهام تنفذها شركات تركية محلية، ما يجعل استمرار الخط ذا أهمية اقتصادية لأنقرة.
ويُشير شيرواني إلى أن تركيا تسعى عبر الاتفاق الجديد إلى تحقيق شروط مالية أفضل، من خلال رفع الرسوم والأجور مقارنة بما نصت عليه الاتفاقية السابقة.
السلام أولا..
في السياق الأوسع، تبقى العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وبغداد مرتبطة بشكل وثيق بمستقبل العملية السياسية داخل تركيا نفسها، وتحديدا ما يتعلق بمسار التسوية مع حزب العمال الكردستاني.
ويذكّر شيرواني بأن هذه ليست المرة الأولى التي تدخل فيها تركيا في عملية سلام مع الحزب، فقد شهدت البلاد مبادرة سلام في عام 2013، شملت انسحاب مقاتلي الحزب إلى مناطق داخل كردستان العراق، وإجراء تعديلات دستورية لتعزيز حقوق الأكراد في تركيا. إلا أن تلك المبادرة انهارت لاحقا عام 2014، في أعقاب سيطرة وحدات حماية الشعب على مناطق محاذية للحدود التركية في شمال وشرق سوريا.
ومن ثم، فإن نجاح أو فشل جهود أنقرة الحالية لتصفية وجود الحزب داخل الأراضي العراقية، سيؤثر بشكل مباشر على طبيعة ومستقبل الشراكة الاقتصادية والأمنية مع بغداد.

دلشاد حسين
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.