هذه ليست هي المرة الأولى التي تحذر فيها الولايات المتحدة بغداد من تنامي النفوذ الإيراني في العراق، لكن اللهجة كانت مختلفة بعض الشيء.
الثلاثاء نشرت وزارة الخارجية الأميركية بيانا قالت فيه إن الوزير ماركو روبيو تحدث مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بشأن الهجمات الأخيرة على البنية التحتية للطاقة، بما في ذلك تلك التي تديرها شركات أميركية. وشدد على أهمية محاسبة الحكومة العراقية للجناة ومنع الهجمات المستقبلية.
روبيو أشار أيضا إلى أهمية دفع رواتب إقليم كردستان العراق بشكل مستمر واستئناف صادرات النفط عبر خط أنابيب العراق – تركيا.
حتى الآن البيان عادي، لأنه جاء بعد سلسلة هجمات استهدفت مواقع نفطية في إقليم كردستان العراق.
لكن الوزير الأميركي اختتم البيان بالحديث عن قانون مثير للجدل يقترب البرلمان العراقي من تشريعه ويتعلق بالحشد الشعبي، وهي من المرات القليلة جدا التي يتم الحديث فيها علنا بين مسؤولين عراقيين وأميركيين بشأن قضايا تخص مجلس النواب.
جاء في بيان وزارة الخارجية الأميركية ما نصه أن “الوزير كرر المخاوف الأميركية الجادة بشأن مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي المعروض حاليا على مجلس النواب، وأكد أن أي تشريع من هذا القبيل من شأنه أن يكرس النفوذ الإيراني والجماعات الإرهابية المسلحة، مما يقوض سيادة العراق”.
توقيت تصريحات روبيو ليس عرضياً، فمشروع قانون جديد للحشد الشعبي يُناقش حالياً في البرلمان العراقي، وهو ما دفع واشنطن إلى دق ناقوس الخطر خشية أن يؤدي مشروع القانون إلى “شرعنة” وضع هذه الجماعات المسلحة وتحويلها إلى مؤسسة موازية للقوات النظامية، على غرار الحرس الثوري الإيراني.
يُعزز هذا التفسير ما قاله السفير الأميركي السابق في العراق، رايان كروكر لـ”الحرة” من أن المكالمة بين روبيو والسوداني “لم تحمل طابعا عدائيا تجاه الحكومة العراقية. لدينا علاقة وثيقة وقوية مع الحكومة العراقية، وأعتقد أن الوزير روبيو أشار إلى ذلك بصفته صديقا للحكومة والشعب العراقي، وأن من مصلحة العراق ضمان ألا تتحول نوايا إيران في زعزعة استقرار البلاد إلى تشريع داخل البرلمان العراقي”.
جاءت تصريحات روبيو في وقت تشهد فيه المنطقة صراعا محتدما بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران وأذرعها من جهة ثانية.
من المعروف أن الولايات المتحدة وإسرائيل تشنان حملة ضغوط واسعة على حلفاء إيران في غزة (حماس) ولبنان (حزب الله) واليمن (الحوثيين) وسوريا (إسقاط نظام الأسد).
ويبدو أن العراق الآن أصبح محط أنظار واشنطن في مسعى لإضعاف الحلقة العراقية من شبكة النفوذ الإيراني الممتدة في الشرق الأوسط.
يعتقد الباحث والأكاديمي العراقي عقيل عباس أن “تصريحات روبيو تشير إلى نفاد صبر الولايات المتحدة على الحكومة العراقية، في ما يتعلق بمطالب واشنطن في هذا الملف، وأنه ستكون هناك عواقب لذلك”.
وأصدر مكتب رئيس الحكومة العراقية بيانا أشار فيه إلى أن السوداني دافع، خلال حديثه مع روبيو، عن التشريع، ووصفه بأنه جزء من مبادرة أوسع للإصلاح الأمني أقرها البرلمان.
كذلك تطرق إلى أن هيئة الحشد الشعبي تظل تحت سلطة القائد العام للقوات المسلحة وتعمل ككيان أمني رسمي إلى جانب المؤسسات العسكرية والاستخبارية العراقية.
لماذا يثير الجدل؟
يدور الجدل في البرلمان العراقي حاليا حول مشروع القانون الجديد الذي يهدف إلى إعادة هيكلة أو تنظيم الحشد الشعبي.
ورغم أن التفاصيل الكاملة للنسخة المتداولة ليست علنية بشكل كامل، تشير النقاشات إلى أن الهدف منه هو منح الحشد الشعبي وضعا قانونيا أوضح داخل الهيكل الأمني، وربما تعديل بعض صلاحياته أو تبعيته.
نسخة القانون تتضمن تغييرات جوهرية عن القانون السابق، تتضمن تثبيت الحشد كقوة أمنية مستقلة و”ضامنة للنظام السياسي”، مع منح الهيئة صلاحيات أوسع تشمل المشاركة في الأمن الداخلي.
كذلك يمنح القانون أفراد الحشد نفس حقوق وتقاعد منتسبي الجيش ويربط هيئة الحشد مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة دون تدخل وزارة الدفاع.
وبحسب عقيل عباس، فإن مشروع القانون يحتوي أيضا على بنود “تصف مقاتلي الحشد بأنهم مجاهدون وهي بنية شبيهة ببنية الحرس الثوري الايراني”.
“كذلك يتحدث عن تشكيل قوة جوية وكلية عسكرية خاصة بالحشد مع إمكانية تصنيع السلاح والسماح لهم ببناء بنية داخلية تتيح لهم انتاج مقاتلين بثقافة تختلف عن الثقافة العسكرية الرسمية،” يضيف.
تأسس الحشد الشعبي في صيف عام 2014 بعد فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني، بعد سقوط الموصل وانهيار أجزاء كبيرة من الجيش العراقي أمام تنظيم داعش.
كان الهدف من تأسيسه هو الدفاع عن العراق ضد التهديد الوجودي الذي مثله داعش.
ضم الحشد في بداياته آلاف المتطوعين من مختلف الأطياف، ولكن سرعان ما تطورت قيادته وفصائله لتشمل مجموعات ذات ولاءات أيديولوجية وسياسية مختلفة. وضم جماعات كانت قد تأسست قبل الفتوى بسنوات بدعم إيراني.
في عام 2016، صدر قانون يلزم الدولة بالاعتراف بالحشد الشعبي كجزء من القوات الأمنية الرسمية، ويضعه تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة.
ورغم هذا القانون، بقيت بعض فصائل الحشد تتمتع بنوع من الاستقلالية التشغيلية، وولاءات قد تتجاوز الدولة العراقية في بعض الأحيان، لا سيما تجاه إيران.
يحذّر الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مايكل نايتس من أن تشريع القانون الجديد للحشد الشعبي سيُكرّس وجود الحشد كـ”حرس ثوري عراقي” داخل المنظومة الأمنية العراقية.
“القانون المقترح يحّول هيئة الحشد الشعبي لمؤسسة مكتملة الصلاحيات، تُشبه وزارة قائمة، وبالتالي سيكون من العسير جدا إصلاحها لاحقاً، ناهيك عن حلها”، وفقا لنايتس.
حملة واشنطن
تصريحات روبيو القوية، وربطها الصريح بين قانون الحشد والنفوذ الإيراني و”الإرهاب”، تشير بقوة إلى أن العراق أصبح بالفعل جبهة رئيسية، أو على الأقل الجبهة “التالية” ذات الأولوية، في حملة واشنطن الشاملة لتقليص نفوذ إيران في المنطقة.
يوضح عقيل عباس هذا السياق قائلا إن “الفصائل المسلحة كانت تعتقد أن تجنب استهداف المصالح الأميركية في العراق وحده لن يستفز الولايات المتحدة وبالتالي حاولوا تمرير قانون الحشد”.
ويضيف: “كانوا يعتقدون أن القانون موضوع محلي والولايات المتحدة لن تهتم أو تنتبه لذلك، لكن ما جرى هو العكس، واشنطن اهتمت لأن المعادلة اختلفت الآن بعد هزيمة إيران في المنطقة”.
تركز الاعتراضات الأميركية على الحشد الشعبي، ولا سيما على بعض فصائله التي تُصنفها الولايات المتحدة كـ “عصابات مارقة” أو “مليشيات مدعومة من إيران”.
أبرز هذه الاعتراضات تشمل:
الولاء لإيران: تعتبر واشنطن أن بعض الفصائل الرئيسية في الحشد الشعبي لا تخضع بالكامل لسلطة الدولة العراقية، وأن ولاءها الأساسي هو لإيران، لاسيما للمرشد الأعلى علي خامنئي. هذا الولاء المزدوج يُنظر إليه على أنه يقوض السيادة العراقية.
استهداف المصالح الأميركية: تورطت بعض هذه الفصائل في هجمات متكررة ضد القوات الأميركية، وقواعدها، ومبانيها الدبلوماسية في العراق وسوريا. تعتبر واشنطن هذه الهجمات “إرهابية” وتتجاوز أي دور دفاعي للحشد.
انتهاكات حقوق الإنسان: تُتهم بعض فصائل الحشد بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وعمليات خطف، وابتزاز، ومحاولات لتغيير ديموغرافي في بعض المناطق التي حررتها من داعش.
كذلك يُنظر إلى الحشد على أنه يتغلغل في الاقتصاد العراقي من خلال شركات واجهة، ونقاط تفتيش، وسيطرة على موارد معينة، مما يُسهم في الفساد ويقوض الحكم الرشيد.
المنافسة مع الجيش العراقي: ترى واشنطن أن وجود قوة مسلحة موازية للجيش العراقي، حتى لو كانت رسمية، يُضعف من قدرة الجيش على فرض سيطرته ويخلق ازدواجية في القيادة والتحكم، وهو ما يُعيق بناء مؤسسات دولة قوية.
يقول السفير كروكر إن “واشنطن تريد لفت انتباه العراقيين لمصالحهم، التي تكمن بوضوح في حكم مستقر وديمقراطي قائم على المؤسسات في ظل سيادة القانون، حيث يكون احتكار السلطة في أيدي الحكومة وحدها، وليس في أيدي الميليشيات”.
و”لا يتعلق الأمر بمحاولة الضغط على الحكومة العراقية لفعل أي شيء، بل أن نية الولايات المتحدة هي ببساطة تذكير العراق بمصالحه وبالدور الخطير الذي تلعبه إيران،” يؤكد كروكر.
خيارات واشنطن وبغداد
إذا لم تستجب الحكومة العراقية أو البرلمان للضغوط الأميركية، فإن واشنطن تمتلك ترسانة من الخيارات وأوراق الضغط.
يؤكد عقيل عباس أن “القرار متخذ من قبل الولايات المتحدة بإنهاء ملف الحشد والميليشيات الموالية لطهران في العراق، ولكن السؤال هو ما هي الأدوات التي ستتبعها للقيام بذلك؟”.
يرى أن “واشنطن ستتبع الأدوات الاقتصادية والمالية أولا، إلا إذا الحشد أو الفصائل استفزت الولايات المتحدة بهجوم مسلح فعند ذاك سترد عسكريا”.
بالمقابل تجد حكومة محمد شياع السوداني نفسها في موقف دقيق وحساس للغاية.
فهي حكومة تشكلت بدعم من الإطار التنسيقي، الذي يضم معظم القوى المقربة من إيران في العراق، وهذا يجعل السوداني مدينا سياسياً لهذه القوى، ويقيد هامش المناورة لديه.
يعرب كروكر عن أمله في “أن يتخذ السوداني الخطوات التي تخدم مصلحة الشعب العراقي، وضمان ألا تتمكن أي حكومة أجنبية، وبالتأكيد ليس إيران، من الحصول على وسيلة من خلال تشريع يقره البرلمان العراقي، لتأسيس أساس تشريعي لجهودها الرامية إلى زعزعة استقرار الحكومة العراقية”.
وفقا لرئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي ريبوار هادي فإن الاعتراضات على القانون موجودة، وحاليا القانون في لجنة الأمن والدفاع النيابية حيث تجري مناقشته بعد قراءته قراءة أولى وثانية تمهيدا لعرضه للتصويت النهائي.
ويضيف هادي للحرة أن هناك الكثير من الملاحظات على القانون، الذي سيكون بديلا عن القانون الحالي الصادر في 2016.
ومع ذلك من المرجح أن تُقدم بغداد تنازلات حقيقية في حال ازدادت الضغوط الأميركية.
“أتوقع أن القانون لن يمضي وسيُسحب من البرلمان، وستُبعث رسالة لواشنطن أن هذا الموضوع انتهى.. لن يَتحدَّو الولايات المتحدة،” يقول عقيل عباس.

الحرة
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.