ليسوا أقليات.. بل هم الأصل.
حقيقة يرفضها الخطاب السائد. بل تكشف حقائق مؤلمة عن واقع مأساوي نقيض.
واقع مرير يفكك طبقاته الإعلامي والمفكر إبراهيم عيسى، في حديث لاذع ومباشر، يتحدى أفهاما ترسخت عبر عقود.
يدعونا لـ”فتح القلب وتشغيل العقل” في مواجهة ما يسميه “الجرح النرجسي” و”الجزية المعنوية” التي يفرضها العقل المسلم السائد على غيره.
فهل باتت “كلمة الأقليات” نفسها عنوانا للأزمة؟
وهل الوصف بـ”أهل الذمة” لا يزال يحكم عقول المؤسسات الدينية الرسمية ويغذي اضطهادا ممنهجا؟
في هذا النص، الذي أُعيد تحريره ليناسب القراءة، يطرح عيسى أسئلة حارقة، ويقدم تشخيصا قاسيا لمرض عميق يتجلى في تحالف “الاستبداد الديني” و”الاستبداد السياسي”.
إنها دعوة قوية لمواجهة الحقيقة: إن “المواطنة” هي الحل الوحيد، حتى لو بدت في واقعنا العربي “كالسراب في الصحراء”.
من الظلمات إلى النور
واقع الأقليات في العالم العربي مأساوي. هذا رغم أن الحضارة الإسلامية والعربية بأكملها مدينة لواحد من هذه الأقليات، الذي نقلها من عصر الظلام إلى عصر النور.
الحضارة الإسلامية التي كانت في الأصل دينا يعتنقه مجموعة من الناس في قطاع من الأرض، كيف خرجت من دائرة الدين إلى دائرة الحضارة؟ وكيف تواصلت مع العالم، ثم أوصلت للعالم ثقافتها ورسالتها وعلمها وعلومها؟ كل هذا جرى عن طريق شخص من الأقليات: حنين بن إسحاق.
حنين بن إساق كان في العصر العباسي ملك ملوك الترجمة، ونقل كل العلوم اليونانية إلى العربية، من الطب والفلسفة إلى غير ذلك من العلوم والفنون.
بهذه النقلة الهائلة، تحولت المجتمعات العربية من كونها دائرية مغلقة قائمة على الغزو والانتشار العسكري، إلى أن تصبح جماعة عالمية رسالية عندها علوم تتشربها من العالم، ثم تهضمها وتقدمها للبشرية.
كل ما نفخر به هو من جراء فعل ودور ورسالة حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين.
من أجل الأقليات في المجتمعات العربية، دعونا ننظر إلى هذا الوضع المزري في واقعنا حول الأقليات، خصوصًا الدينية.
الأزمة الكبرى: مفهوم “الأقليات” نفسه
أكبر مشكلة في التعامل مع الأقليات هي تسميتهم “أقليات”؛ طالما أن البلاد العربية تتعامل معهم كذلك، فنحن في عمق الأزمة ومستمرون فيها.التعامل على أن المجتمع أغلبية وأقليات، يحتم الأزمة والمشكلة. هل عندنا أزمة؟ نعم، عندنا أزمة كبيرة جدًا.
الأرقام تتحدث عن نفسها:
- في العراق قبل 2003، كان هناك مليون ونصف مسيحي عراقي، صاروا الآن 250 ألفًا.
- سوريا كان 12% من شعبها مسيحيين، الآن 2%.
- الصابئة المندائية كانوا 75 ألفًا قبل 2003، الآن 3000 فقط.
- أكثر من 1200 ضحية من الدروز قُتلوا ومُثل بجثثهم في السويداء بسوريا.
- قرابة 2000 من العلويين قُتلوا في الساحل بمجزرة وحشية.
- اليهود في مصر كانوا 75 ألفًا قبل 1952، صاروا خمسة أفراد.
- البهائيون في مصر، كانت ديانتهم تكتب في البطاقة، ثم تحول الأمر إلى وضع شرطة أمام خانة الديانة.
نحن أمام أزمة حقيقية، أزمة انهيار التنوع والتعدد الذي يخلق واقعا متقدما متحضرا متعايشا.
المجتمعات تتحول إلى عنصر غالب وأغلبية، وعنصر مكروه ومستكره. وهذا يخلق حالة الظلمة والعتمة في واقعنا العربي.
هل أنت لا ترى هذه الظلمة والعتمة؟
التراجع الحضاري، الصناعي، التكنولوجي، في العدالة، الحروب الأهلية، تفتت وانقسامات الدول خصوصا في شرق المتوسط. هل كل هذا مشهد طبيعي عادي؟ ما يفعله العرب مع الأقليات هو عنوان تراجع وتخلف الواقع العربي.
من هم “الأقليات” هؤلاء؟
من هم هؤلاء الأقليات؟ في العلوم السياسية يتحدثون عن أقليات دينية وعرقية، وربما ثقافية ولغوية، لكن دعنا نتحدث عن الدينية والعرقية.
كلمة “الأقليات” نفسها، هذا المصطلح، وإن اعتمد في المواثيق والعلوم السياسية، هو تعبير موحٍ تماما بالأزمة.
كل التباهي والتفاخر العظيم الذي يقدمه الإسلاميون، وإحساسهم بالاعتزاز لأن الإسلام فعل وعمل وفتح وغزا وامتلك العالم، نجده يستخدم أسماء مثل صلاح الدين الأيوبي، وهو كردي من الأقليات في العالم العربي.
طارق بن زياد، فاتح الأندلس، كان أمازيغيا.
سيبويه، الذي أسس علم النحو واللغة العربية، لم يكن عربيا.
ابن سينا والخوارزمي وكل هذه الأسماء التي يتباهى بها هؤلاء الإسلاميون، هم في حقيقة الأمر موال، أو بالمعنى العصري “أقليات”.
عندما نرى اضطهادا رهيبا لفكرة “العنصر المختلف” داخل المجتمع، واعتباره دخيلًا أو شاذًا أو نبتة في غير حقلها، هذا يعني انفصامًا حادًا في الشخصية.
هناك تباهٍ وتفاخر بهذه الأقليات العرقية التي انضمت إلى دينك وقدمت إنجازات تعتبرها عظمى، ومن جهة أخرى، يتم التعامل معهم من علٍ، وإحساس بالتفاخر عليهم، والتنابز ضدهم، وتأكيد أن العرب هم العنصر الأنقى والأهم.
حرام عليك، الأقليات هم الأصل.
الأقليات هم أصل هذه البلاد، أنتم الطارئون!
الأقليات في البلاد العربية هم أصل هذه البلاد التي لم تكن عربية في يوم من الأيام، بل أصبحت عربية بالغزو والاحتلال.
عندما يقولون في مصر “الأقلية القبطية”، لماذا أقلية قبطية؟ المصريون المسيحيون هم أصل مصر، أنت الطارئ عليها، أنت الذي غزوت واحتللت.
كون أن أقباطًا دخلوا الإسلام، هذا قصة أخرى؛ لكن في المحصلة، الأقباط والمسيحيون هم الأصل.
الزرادشت والفرس هم الأصل، والصابئة هم الأصل في العراق.
أنت الذي تتعامل معهم على أنهم أقليات دخيلة، حضرتك الدخيل.
لحل مشكلة هذا الوعي الذي يؤدي إلى اضطهاد الأقليات، وإلى اندماج الحالة الدينية المهووسة المتطرفة المتعصبة الإرهابية مع حالة التفاخر القومي والإحساس الزائف بعلو العروبة، هذا كلام عنصري وتعبير عن وعي مشوه للغاية، يؤدي إلى أنك لا تواجه نفسك بالحقيقة.
فغالبًا، سواء تحدثنا عن الأقليات الدينية داخل الإسلام (مثل العلويين والشيعة والدروز)، أو عن المسيحيين أو حتى اليهود في الواقع العربي، أو الصابئة، هم أبناء الأصل، هم جذر هذه البلاد.
المسيحيون في الشام هم الأصل، فرس العراق هم الأصل.
أنت الطارئ، كونك قدرت تسيطر وتهيمن، هذا موضوع آخر يتعلق بقوة امتلاكك للسلاح أو الإجبار.
ما نناقشه هو أن من تزعم أنهم أقليات، هم في حقيقة الأمر أصل هذه البلاد، وأنت الطارئ عليها.
بل أغلبية وإسلامية
دعنا نعود إلى الأقليات الدينية داخل الإسلام نفسه.
الشيعة، العلويون، الدروز، البهائيون، هؤلاء منتج إسلامي، منتج المجتمع الإسلامي الذي يسيطر عليه الحكم الإسلامي.
هم أبناء هذا المجتمع، جزء أصيل وفصيل مهم من تلك الشرائح المسلمة ذات الأعراق المختلفة التي كانت تعيش في هذه الرقعة من الأرض التي يهيمن عليها الحكم الإسلامي.
إذن هم جزء من نفس الشجرة، لا يصح لك أن تتعامل معهم كشجرة أخرى أو فرع دخيل.
لا يسمح المرء لنفسه، إن كان يملك عقلًا أو منطقًا، أن يتعامل مع العلويين والشيعة والدروز على أنهم خارج نطاق الأغلبية الإسلامية.
هم أغلبية إسلامية، اختلفوا أو تمايزوا، لكنهم طالعون منك؛ فلا تتعامل معهم باعتبارهم أقلية تحت اضطهاد ومطاردة.
لماذا هذه الأزمة؟ وأشكال التهجير القسري
الأزمة الحقيقية التي أوصلتنا لهذا المشهد هي التعامل مع الأقليات العربية على أنها أقليات، واضطهاد هذه الأقليات بالمطاردة والتهجير الطوعي والإجباري، وهضم حقوقها وإنكارها في إدارة حياتها وبلدها، التي هي جزء أصيل ومكون أساسي فيها.
دعني أقف عند نقطة التهجير الطوعي أو القسري.
نحن جميعًا نقف أمام محاولات إسرائيل لتهجير الشعب الفلسطيني.
ما ندينه ونقول عنه تهجيرًا طوعيًا كما تزعم إسرائيل، أو حتى إن هاجر أحدهم طوعًا من الضيق، فهو في المحصلة تهجير بالإجبار والإكراه والتضييق.
أنت فعلت ذلك مع المسيحيين في العراق.
استطاعت داعش والحكم العراقي بعد الغزو الأميركي والسيطرة الشيعية على الحكم، وسيطرة الإرهاب الديني السني على الأرض، أن تهجّر المسيحيين، من مليون ونصف إلى 250 ألفًا.
هل تهجّروا أم لا؟ بكل أنواع التهجير الذي تمتعض منه وتدينه وترفضه في التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين، أنت الذي هجرت أبناء وطنك وشعبك.
المسيحيون في سوريا ما قبل 2011، يتحولون الآن من 10% إلى 2% من الشعب السوري.
ما تفعله في العلويين، وما تفعله في السويداء، هذا كله تهجير لشعوب هذه الأرض.
مكيالان ومكاييل
هذا تعبير عن فصامية شديدة وازدواج في الحكم.
أنت طول الوقت تعاير الغرب -بحق- بأنه يكيل بمكيالين. وأنت تكيل بمكاييل متعددة.
وكل المكاييل التي لا تحقق إلا تعصبك وتطرفك وتخلفك، ورغبتك في اضطهاد ومطاردة وطرد هؤلاء الذين يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين، زعمًا بأنك صاحب الأرض لأنك صاحب الحكم.
هذا المشهد الذي نراه كل يوم، عندما نرى الجماعات الإسلامية تدعو الأقليات إلى تهاجر إن لم يعجبها الحكم الإسلامي.
قالها الإخوان للمسيحيين في مصر أثناء حكمهم، وقالها الجولاني، وقالها كل من تولى هذا الحكم بدعوى تمثيل الله والإسلام.
رأينا الإخوان المسلمين بعد فض رابعة في 2013 يستهدفون أكثر من 60 كنيسة مصرية.
مشكلة الأقليات في الواقع العربي، مع تحفظي على الكلمة، هي مشكلة التيار الإسلامي.
منذ متى بدأت هذه المأساة؟
في لحظة ميلاد كارثتين:
الثورة الإيرانية، التي كانت إيرانية أولًا ثم أصبحت إسلامية بعد أن أطاحت بكل حلفائها من اليسار والليبراليين بالمشانق والسجون والقتل العلني، واستولت على الحكم والثورة، وأُطلق عليها الثورة الإسلامية، وظهر الإسلام السياسي الشيعي ومحاولة تصدير الثورة الذي كان جزءًا أصيلًا من دستور إيران. والآن إيران نفسها في حالة اضطهاد لأقلياتها، سواء العرقية مثل عرب الأحواز، أو السنة الإيرانيين.
ثم نذهب إلى الصحوة الإسلامية الكارثية التي لم تكن أكثر من هوس مرضي متطرف، متعصب، مجرم استخدم الإسلام، والمذهب الحنبلي أو السلفي والوهابي للسيطرة على الواقع العربي والشعوب العربية. والاستهداف يشمل كل من هو خارج مربع التيار الإسلامي السني السياسي.
عقل القرون الوسطى
مفهوم أهل الذمة لا يزال يحكم عقولهم.
هذا عالم القرون الوسطى. أول ما تسمع أحدهم يستشهد بالحديث النبوي عن “استوصوا بالقبط خيرًا” أو “من آذى ذميًا”، تعرف أنه لا يزال يعيش في عالم القرون الوسطى؛ فالسياق التاريخي لفكرة القرون الوسطى لا علاقة له بالدولة الحديثة الآن.
لا يزالون يقولون الأحاديث والخطب والمواعظ.
في أي مشهد فتنة طائفية، يخرج أحدهم ليقول هذين الحديثين، وكأن هؤلاء ليسوا مواطنين، كأنهم أقلية وأهل ذمة أو أهل كتاب، وأن “ربنا وصانا بأهل الكتاب”.
هذه الحالة ليست مسيطرة على التيار الإسلامي السياسي المتطرف والإرهابي فقط، بل هي متغلغلة تماما في التيار الإسلامي الذي يعتقد نفسه معتدلًا، وفي المؤسسة الرسمية الدينية التي تعتقد أنها تتحدث باسم العقل.
هذه “القافية الكبرى” هي الاستعلاء الديني من قبل الجماعة السنية المسيطرة، سواء على التنظيمات أو على الدول نفسها.
تتعامل مع الآخرين من باب أن عندها حالة الاستعلاء: “إحنا ديننا أفضل من أديانهم، إحنا هندخل الجنة وأنتم النار، إحنا ربنا قال لنا ونبينا وصانا، ونحن نتعامل معكم كويس”.
هذا المفهوم كله هو المسؤول عما يحدث للأقليات، من أول أن مواطنا في الواقع العربي يتصور أنه قادر على الحكم على دين آخر بأنه جيد أو سيء.
وما شأنك أنت؟ ما علاقتك بأصحاب الأديان الأخرى؟ ما الذي يقربك من البهائي أو الإيزيدي أو الزرادشتي أو الصابئي؟ من الذي يخول لك الحكم عليهم؟ من الذي يقول لك تتكلم عن الدروز؟ ما شأنك بهم أصلًا؟ كل هؤلاء يعبدون الله، والله يحاسبهم على ما هم فيه من أفكار وعقائد، مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو باقي المذاهب والأديان.
أنت والمؤسسة الدينية الرسمية، أو الجماعة الإسلامية، أو التنظيم الديني، تشغل نفسك جدًا بالحكم على الآخرين، وتعمل قاضيًا وجلادًا، وتُعطي لنفسك الحق في الحكم على تدين الآخر ودين الآخر.
من اللحظة الأولى، أنت تمارس هذا الاستعلاء… طالما أنت في حالة استعلاء، فأنت تملك الغضب.
والولد المتطرف والتنظيم الإرهابي لا يفعل إلا ما تعلمه في الكتب.
نكذب على أنفسنا
الوطن العربي كله يكذب على نفسه، كلهم يكذبون طوال الوقت، أصحاب ألف وجه. تدعي التسامح فيما أنت لا تملك حق التسامح ولا حتى المعاداة.
السلطة المفروض تكون سلطة مدنية، لا سلطة توصي المسلمين أن يعاملوا المسيحيين أو العلويين كويس!
هذا كلام فارغ، هراء، كذب.
أنت صانع هذا التمييز ضد الأقليات، بسبب سيطرة الجماعات الإسلامية والتنظيمات الدينية على العقل العربي والمسلم، من جراء أنك أضعف من أن تواجههم، أو أنك تغازلهم وتتحالف معهم وتستغلهم.
المشهد هو التواطؤ الرهيب على العلويين والدروز والإيزيديين وكل الأقليات التي استهدفتها الجماعات المتطرفة، بما فيها جماعات ادعت أنها جيش سوري.
جيش سوري؟
هذه مجموعة الفصائل الإرهابية التي يقودها وزير دفاع هو رفيق أسامة بن لادن.
جيش سوري لا يحتوي على مكون غير السني السلفي المتطرف المنتمي لفصائل إرهابية تابعة للجولاني، وتقول لي جيش سوري يحترم المواطن الدرزي أو العلوي؟
هذه حالة النفاق التي نعيشها لا أتصور أن لها نهاية قريبة.
مشكلة الأقليات هي استهدافها من قبل التنظيمات الإرهابية المتطرفة السلفية، المدعومة بثقافة دينية تقليدية مروجة وموزعة في المؤسسات الدينية الرسمية والإعلام العربي الرسمي.
من يتغافل عن هذا أو يتجاهله، يشخص بطريقة خاطئة، ومن ثم لا أمل في علاجه، لو كان يريد أن يعالج.
“فصامية” اتهام الأقليات بالولاء للخارج
ننتقل إلى الريبة الدائمة تجاه الأقليات في واقعنا العربي: اتهامهم بولائهم للخارج أو الاستقواء بالخارج.
هذا يروجه السياسي قبل الديني، والقوى السياسية (خصوصا اليسار) قبل التنظيمات الدينية والأصولية، بل وتروج له بعض الحكومات.
المستهدف الأول في هذا السياق، بطبيعة الحال، المسيحيون في الواقع العربي.
هناك ربط، خصوصًا عند الإسلاميين، بين المسيحيين العرب والقوى الغربية، لأن الغرب المسيحي ينتصر للمسيحيين العرب، وأنهم استقووا بالغرب الصليبي.
السؤال هنا: لن أتكلم عن إثبات وطنية المسيحيين أو عروبتهم؛ لأنهم هم الذين صنعوا العروبة.
العروبة وفكرة القومية العربية هي اختراع مسيحي عربي.
لكن سأتكلم عن شيء يمليه المنطق والإنصاف: كيف يستقوي بالخارج من كان في الداخل ولم يستقوِ به؟ ألم يكن الاستعمار مسيحيًا؟ الصليبيون احتلوا فلسطين والقدس وحواف الشام. لم نرَ المسيحيين العرب استقووا بالصليبيين.
أتعلم من الذي استقوى بالصليبيين أيها المضلل؟ الزعامات الإسلامية، الحكام المسلمون، من حكام حلب ودمشق والموصل والقاهرة. بل أنتم، في تاريخكم إن قرأتموه بإنصاف، الذي استقوى بالاستعمار وبالصليبيين، كان المسلمون وحكامهم.
ثم جاء الاستعمار الغربي، الفرنسي أو الإنجليزي. أين المسيحيون الذين استقووا به؟ في سوريا؟ في العراق؟ في مصر؟ من الذي أخرجهم؟ الشعب بكل مكوناته، وأولهم المسيحيون: السوداني، المصري، السوري، اللبناني. من قاوم الاستعمار؟ أين هذا الاستقواء؟
أنتم أيها الضلالية من تستقوون بالخارج.
أنا لم أرَ العلويين أو الدروز أو المسيحيين يستقوون بالخارج. أنا رأيت الإسلاميين يستقوون بتركيا (أردوغان الخليفة)، والإسلاميين الشيعة يستقوون بإيران، وحماس تستقوي بإيران، والحوثيين يستقوون بإيران. لم أرَ مسيحيًا مصريًا ولا سوريًا ولا لبنانيًا ولا أي مسيحي في الواقع العربي يستقوي بالغرب أو ببابا الفاتيكان. هو يُساند بابا كنيسته الوطنية ومؤسساته الوطنية. الإسلاميون ضد مؤسساتهم الإسلامية الرسمية ويكفرونها، أو يجندون في هذا الاستقواء بالخارج.
دعني لا أصل إلى حد أن أقول لك: هات لي قائمة الجواسيس.
افتح دفتر أي جهاز مخابرات لأي دولة عربية، وافتح بند الجواسيس لإسرائيل مثلاً. قل لي ما هي ديانتهم؟ في قوائم الجواسيس، كم مسيحي كان جاسوسًا لإسرائيل، وكم مسلمًا؟ استقواء بالخارج؟ عمالة للخارج؟ إنه كذب. لماذا؟ لأنه يريد السيطرة والهيمنة على مجتمعه واضطهاد كل مكوناته.
القمع الذي يساوى.. والفوضى!
بالنسبة للحاكم المستبد، لا يفرق بين مسلم ومسيحي أو يزيدي أو علوي أو درزي؛ سيضطهد الجميع. هذا هو السبب في أن هذه المشاكل لم تظهر أيام صدام حسين أو حافظ الأسد (وربما بشار قبل 2011)؛ كان القمع والقهر الذي مورس ضد المواطنين العرب كلهم، على مذاهبهم وأديانهم المختلفة، هو الذي صنع حالة الصمت والهدوء الطائفي. الكل كان مقهورًا، مساواة في الاستبداد.
عندما انتقل الاستبداد إلى الفوضى، لأن واقعنا العربي لم يرَ ديمقراطية إطلاقًا، أصبحت التيارات الإسلامية الطائفية هي التي تؤجج.
وعلى طول يقولون: “العلويون كانوا يستحقون حكم بشار الأسد”.
إن لم تكن كذابًا أشر، فكن كذابًا فقط!
هل الغالبية في الجيش السوري كله كانوا علويين؟
ويقولون: “القيادات الدينية لهذه الأقليات في العراق وسوريا كانت توالي السلطة”.
هل القيادات الدينية المسلمة لم توالِ صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وصالح؟ هل هناك أكثر نفاقًا وتزلفًا لحكامهم من المؤسسات والشخصيات الدينية الرسمية؟
لهذا لا أظن أن هناك حلًا لمأساة ما تتعرض له أقليات سوريا ومكوناتها الآن.
تحالف الاستبداد الديني مع الاستبداد السياسي هو الذي جعل وضع الأقليات في الواقع العربي ضعيفًا وهشًا، وفي حالة اضطهاد وخناق، بمن في ذلك حتى من يعيش عيشة كريمة.
يقولون إن الأقليات توالي السلطة لأن السلطة تسندها، وليست قادرة على اتخاذ موقف ثوري.
هل تطلب منهم الانتحار؟
ما رأيناه في العراق: المجتمع تحت القمع، والمسيحي العراقي كان يتحمل القمع مثل المسلم. أول ما انتقل العراق من الاستبداد إلى الفوضى، المليون ونصف مسيحي هم من دفعوا الثمن، صاروا 250 ألفًا.
نحن، على المستوى السياسي والديني (بشقيه المتطرف والرسمي)، كلنا نصنع هذا المناخ والبيئة التي تجعل الأقليات مقهورة، مضغوطة، محاصرة.
هذا ما يجعل المستقبل صعبًا للغاية، ويجعلنا نؤمن بقوة أن الدروز والعلويين في سوريا، والمسيحيين في مصر، والأمازيغ في الجزائر وتونس والمغرب، هم أكثر الناس وطنية وانتماء لبلادهم وإحساسًا بأن هذه بلادهم.
لماذا؟ لأنهم يتعرضون لكل ما حكيناه ونراه ونعيشه. ومع ذلك، هؤلاء مُصرون ومُصممون على البقاء على هذه الأرض والاستمرار في هذا الوطن، رغم كل المعاناة.
صحيح، من القهر والاضطهاد، العراق يفقد مكوناته، وأولها المكون المسيحي. المكون المسيحي السوري يتآكل، وكذلك اللبناني.
أزهى عصور لبنان وأعظمها – اقتصادًا، سياحة، رفاهًا، تعايشًا، حضارة، جسرًا بين الغرب والشرق – كانت عندما تسيطر المارونية اللبنانية الوطنية على لبنان، لبنان الكبير. عندما تحول الأمر إلى طائفية وعنصرية وشيعية سياسية، تراجع لبنان وتقلص وتهمش.
الحل: المواطنة
أول ما يمكننا فعله الآن لمواجهة أزمة الأقليات في واقعنا العربي هو أن نتوقف عن وصفهم بـ “أقليات”، وعن التعبير عنهم بهذا الوصف. إنهم مواطنون، بل هم المواطنون الأصليون وأصحاب الأرض.
ثانيًا: لا يمكن للأقليات أن تأمن في الواقع العربي مع وجود الإسلام السياسي، سواء بصورته السنية أو الشيعية أو بوجهه الإرهابي المسلح. والطين يزيد بلة ويصبح وحلًا عندما يحكم الإسلام السياسي (مثل الجولاني) الدول والحكومات التي فيها هذه المكونات والأقليات.
ثالثًا: تيار الإسلام والمؤسسات الرسمية الإسلامية، القائمة على الثقافة الإسلامية والتعليم الديني الرسمي، عليها أن تتوقف عن عالم “أهل الذمة” و”أهل الكتاب”. عليها أن تؤمن بأننا في عصر الحداثة والمدنية، وأننا مواطنون.
رابعًا: على الحكومات أن تتخلى عن اللعب بفكرة جذب الأقليات لاستخدامهم كورقة في مواجهة التطرف أو المزايدة عليهم، أو استخدامهم كورقة سياسية لمزيد من الدعم للدولة بحجة “لو مشينا هيجيكم المتطرفون”.
الغريب أن أزمات الأقليات في الواقع العربي تكاد تكون قاصرة على الجمهوريات العربية، وتكاد تنجو – إلا من رحم ربي – الممالك العربية من أزمة الفتن الطائفية. وإن كان بالتأكيد لها مظاهر، والأقليات لا يتمتعون بكل هذه الحقوق الكاملة، لكنهم أكثر أمانًا في كنف الدولة. بينما الأقليات في دول شرق المتوسط، على الأقل، في كنف الفوضى.
الجرح النرجسي والجزية المعنوية
الاضطهاد الذي يمارسه التيار الإسلامي السياسي والجماعات الإسلامية المتطرفة ضد الأقليات، أحد أسبابه الرئيسية أن هذا التيار لا يزال يعيش عصر أهل الذمة وأهل الكتاب والجزية والتصور المختل.
تمامًا كما فعلت داعش عندما سيطرت على أجزاء من العراق وسوريا وأسمتها دولة الخلافة، أول شيء فرضته هو الجزية.
هناك جرح رهيب عند الجماعات الإسلامية والمسلمين عمومًا، يسميه جورج طرابيشي “الجرح النرجسي”.. فكرة أننا “كنا سادة العالم، مسيطرين على العالم، تحولنا الآن إلى قاع العالم”.
يعتبرون أن استرداد هذه القوة والمكانة يتم عبر استعادة التاريخ والتراث القديم واستنساخ الماضي، بما فيه اللحى والكلاشينكوف فوق الحصان، وباستعادة اضطهاد الأقليات والتعامل معهم كـ”أهل ذمة يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون”.
كأنك تسترد مجدك القديم بأن تضطهد أبناء قومك ومواطني بلدك، وتتعامل معهم على أنهم أقليات وأهل كتاب وأهل ذمة، وتمارس عليهم ما كان يمارس من قبل، على اعتبار أن هذا عنوان ومظهر السطوة والسلطة.
أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الكبيرة لدى العقل المسلم الآن، ليس فقط المتطرف بل العقل المسلم عموما، هو أن لديه “الجزية المعنوية”.
يتصور أنه لكي يعوض عن كونه في آخر قطار الحضارة، وآخر درجة في سلم الحداثة والتقدم، وأنه مهمل وفي القاع، فإنه يقوم بعمليات تعويضية.
كيف تتم هذه العملية التعويضية معنويا؟ باستنهاض إحساس صاحب العز الذي تهدم بيته، لكن يظل يشعر أنه “الباشا القديم”، وأن هؤلاء كانوا يعملون عنده.
أكبر مظهر لهذه الحالة التعويضية هو “أنا ديني أحسن من دينهم، كويس جدا أنني مُعيشهم معي، راضٍ بوجودهم”.
هذه الجزية المعنوية، وكأن المسيحي أو اليهودي، أي أقليات موجودة، يجب أن تقدم جزية معنوية لحضرتك، إذا لم تكن هناك جزية بالمال. جزية معنوية تعني: القبول بسيادتك، سلطتك، رأيك، سماع كلامك، تنفيذ تعليماتك كمسلم.
لا، لقد زادوها جدًا.
لا تظن أنك نجوت مما يفعله التيار الإسلامي السياسي أو الإخوان المسلمون أو التنظيمات الإرهابية في الأقليات. لست بريئًا بأي قدر، أنت شريك، شريك حتى بالمنطق المعنوي المتواطئ.
تريد أن تعوض قمعك أمام السلطة، وتراجعك أمام الغرب، بأن تُظهر لنفسك أنك الأعلى، ثم تعود لتتهم غيرك. أنت مضطهد. مضطهد من الغرب الذي تشعر أنه يسيطر عليك، ومن ثقافته وحضارته، ومن حكمك وحكومتك، ومن العيشة التي تعيشونها. فتريد أن تعبر عن هذا الاضطهاد وتنفّس عنه، فتذهب لاضطهاد الآخر. تضطهد من تتصور أنهم أقل منك وأقليات.
بينما أنت نفسك، عندما تصبح جزءًا من الأقليات في المجتمع الغربي، تتشكى بمنتهى الوقاحة وازدواج الشخصية: “لماذا يعاملوننا هكذا؟”.
تأبى على الفتاة المسيحية في مدرسة ببلد مسلم أن تأتي من غير حجاب. وتغضب بشدة إن لم يسمح بحجاب ابنتك في المدرسة الغربية.
طالما ظل هذا المجتمع العربي على نفاقه وفصامه، فأتصور أننا لازلنا ندور في هذه الدائرة الجهنمية التي يبدو الخروج منها صعبًا للغاية.
رغم أن الحل سهل جدًا. الحل هو المدنية، العلمانية، الحداثة، العصرنة، المواطنة.
لكن هذا الحل يبدو في الواقع العربي كما يبدو السراب أمام الأعرابي في الصحراء.

الحرة
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.