تشكّل المسدسات والرشاشات المائية، أسلحة بلاستيكية ممتعة، يستخدمها الأطفال، وأحياناً الكبار للعب والتسلية داخل أحواض السباحة وعلى شطآن البحار.
تستعير هذه الأسلحة المائية من الأسلحة الحقيقة مفهوم إطلاق النار، لتحوله إلى إطلاق ماء لا يكون مؤذياً، ويكون مجالاً لتحويل الحرب إلى لعبة يتسلى بها الصغار والكبار.
الماء هنا، سلاح لا يقتل. لكن ليس في الحالة التركية. إطلاقات المياه، تستخدمها تركيا بطريقة مختلفة، تكون فتاكة وقاتلة.
“وجعلنا من الماء كل شيء حي”، عبارة قد تجدونها مكتوبة على أغلب مصادر مياه الشرب في سوريا. وفي العراق، قد تجدون عبارة أخرى، تقول “اشرب الماء واذكر عطش الحسين”، وفي كلتا العبارتين المستمدتين من البعد الديني، تأكيد على أهمية المياه، كعنصر أساسي، ليس فقط في ثقافات هذه الشعوب، بل أيضاً كمكون استراتيجي وحاسم في تشكيل المشهد الجيوسياسي في هذه البلدان وفي الشرق الأوسط عموماً، لا سيما في حوضي نهري دجلة والفرات.
تركيا تعرف تماماً أهمية الماء كسلاح، وتصوّب “مسدساتها المائية” إلى جيرانها، ليس كلعبة، بل كحرب. حرب حقيقية وخفية تجري في كواليس المنطقة.
هذه المنطقة، المعروفة تاريخياً بـ “الهلال الخصيب” و”ما بين النهرين”، كانت مهداً لحضارات متقدمة على مدى 10,000 عام، حيث ازدهرت بفضل وفرة المياه التي سمحت بالثورة الزراعية وظهور الحياة الحضرية.
وكما يوضح وسام سعادة، أستاذ السياسة والتاريخ في جامعة القديس يوسف ببيروت، لموقع “الحرة”، فإن هذه المنطقة كانت متقدمة عن غيرها في العالم منذ ما قبل الميلاد. ولا يزال توفير المياه العذبة ضرورياً للحياة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والاستقرار السياسي في الشرق الأوسط.
مع ذلك، فقد تحولت ندرة المياه، التي تفاقمت بفعل تغير المناخ والتحكم بالموارد في دول المنبع، من مجرد قضية موارد إلى أداة قوية للنفوذ السياسي والأمني.
تمارس تركيا الآن نفوذاً متزايداً في المنطقة، خاصة في سوريا والعراق، من خلال سيطرتها على تدفق المياه من نهري دجلة والفرات. هذا الوضع يضع تركيا كقوة مائية عليا، مستفيدة من موقعها المهيمن في المنبع.
هذا النفوذ الهيكلي، المستمد إلى حد كبير من مشاريع بناء السدود، لا يقتصر على توفير المياه للري فحسب، بل يشمل أيضاً توليد الطاقة الكهرومائية. إن القدرة على توليد طاقة كهرومائية كبيرة تمنح تركيا استقلالاً في الطاقة ومزايا اقتصادية، مما يعزز بدوره نفوذها الجيوسياسي. وهذا، بدوره، يخلق دورة تعزيز ذاتي حيث تتحول السيطرة على الطاقة إلى قوة اقتصادية وسياسية، مما يعزز مكانتها المهيمنة ويمكّنها من استخدام المياه كأداة ضغط.
التحكم في مورد حيوي ونادر في منطقة تعتمد تاريخياً على المياه يحوله حتماً إلى أداة جيوسياسية. السياق التاريخي للمنطقة، التي كانت في السابق متقدمة ولكنها أصبحت تتأثر بالقوى الخارجية، يؤكد كيف يتناسب هذا التحكم التركي مع نمط أوسع من النفوذ الخارجي.
يشير وسام سعادة إلى أن تركيا تمارس نفوذها بشكل متزايد، خاصة في سوريا، من خلال دعم القوى الموجودة على الساحة السورية وتمسكها بالتحكم في تدفق منسوب المياه من نهري دجلة والفرات.
تُعد مياه الفرات ودجلة تاريخياً مصدراً رئيسياً لصراع المياه العذبة في الشرق الأوسط. نشأت بعض الحضارات الأولى من التقاء هذين النهرين، حيث قامت إمبراطوريات وسقطت في حوضهما على مر العصور.
لقرون مديدة، كانت المنطقة خاضعة لاستقطاب بين إمبراطوريات مركزية مثل العثمانية والساسانية/الصفوية، حيث كانت بلدان المشرق، وخاصة ما بين النهرين، تتأثر بهذا الاستقطاب، كما يوضح وسام سعادة. خلال هذه الفترات الإمبراطورية، كان هناك نظام مشترك أو فقه إسلامي يحكم استخدام المياه، مما يضمن درجة من الإدارة الموحدة أو التحكيم.
أدى انهيار الإمبراطورية العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى إلى حقبة جديدة من الصراع بين السيادات، حيث لم تسفر عن تسويات نهائية في ما يتعلق بتقسيم الموارد المائية. أدى هذا التفكك إلى ظهور دول قومية حديثة مثل تركيا وسوريا والعراق، دون اتفاقيات واضحة لتقاسم المياه، مما خلق فراغاً قانونياً وسياسياً.
كما أن غياب إطار قانوني بديل أو آلية حوكمة مشتركة بعد الإمبراطورية العثمانية أدى إلى ظهور نزاعات مائية حديثة تركز على الدولة القومية. ويمكن اعتبار تأكيد تركيا اللاحق على أن دجلة والفرات “أنهار وطنية” نتيجة مباشرة لهذا الفراغ التاريخي ورفضاً لنموذج الموارد المشتركة السابق.
يؤكد الصحافي الكردي المتخصص في الشؤون البيئية، خالد سليمان، لموقع “الحرة”، أن تركيا لا تعترف بتعريف الأنهار الدولية، وتعتبر نهري دجلة والفرات “نهرين وطنيين”. وقد تجسدت هذه الرؤية في تصريحات سابقة لقادة أتراك، حيث يُنسب إلى الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل قوله الشهير: “نحن لا نخبر العرب ماذا يفعلون بنفطهم، لذلك لا نقبل منهم أي اقتراح حول ما نفعله بمياهنا”.
تستخدم تركيا المياه صراحة كأداة سياسية وأمنية ضد كل من سوريا والعراق، كما يؤكد خالد سليمان. يتجلى هذا الاستخدام بوضوح في تاريخ علاقاتها مع هذه الدول.
في التسعينيات، هددت تركيا باجتياح شمال سوريا بسبب صراع حول السدود، كما يذكر وسام سعادة.
وبلغت التوترات ذروتها في منتصف أكتوبر 1998، عندما نشرت تركيا دبابات على طول الحدود السورية التي يبلغ طولها 910 كيلومترات، مهددة بالغزو ما لم توقف دمشق دعمها لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو جماعة انفصالية كردية تركية. كانت سوريا تدعم حزب العمال الكردستاني، من أجل إجبار تركيا على إرسال المزيد من المياه.
بعد ان حشدت تركيا جيشها على الحدود السورية، تراجع الرئيس حافظ الأسد بسرعة وبشكل غير متوقع.
تعهد الأسد بتلبية معظم المطالب التركية بإنهاء دعم حزب العمال الكردستاني وقبول شكل من أشكال المراقبة لضمان ذلك، كما قام بطرد زعيم الحزب عبدالله أوجلان من سوريا، ليتم القاء القبض عليه لاحقاً ويودع في سجن تركي.
هذا “التراجع” السوري وقبول دمشق لسيطرة تركيا على تدفق المياه يشيران إلى تآكل مباشر للسيادة السورية على مورد دولي مشترك، وفقاً لوسام سعادة.
تعيد استراتيجية تركيا المائية تعريف “قواعد” الاشتباك في الحوض، وتنتقل من التفاوض إلى الإكراه، مما يضع سابقة خطيرة لأحواض الأنهار الدولية حيث يمكن لقوة المنبع فرض شروط من جانب واحد، مما يقوض مبادئ الاستخدام العادل والسيادة الوطنية.
وقد ساعد الرئيس المصري حسني مبارك في التوسط، حيث زار دمشق وأنقرة وأقنع الأسد بأن الأتراك جادون في اتخاذ إجراء عسكري. بعد اتفاقية أضنة التي تلت الأزمة، تم التوصل إلى اتفاق بشأن الموارد المائية في عام 2008.
تستفيد تركيا اقتصادياً من كون العراق سوقاً مفتوحاً للمنتجات التركية. من خلال التحكم في تدفق المياه، تعيق تركيا ضمنياً التنمية الزراعية والإنتاج المحلي في العراق، مما يضمن استمرار الاعتماد على الواردات التركية للمستلزمات اليومية والإمدادات الغذائية، وفقاً لخالد سليمان. هذه استراتيجية اقتصادية واضحة؛ فمن خلال الحد من المياه للزراعة العراقية، تضمن تركيا استمرار اعتماد العراق على الواردات الغذائية التركية. وهذا يحول نزاع المياه إلى ميزة تجارية، مما يخلق تبعية اقتصادية.
يتجاوز تسليح المياه التهديدات الأمنية المباشرة ليشمل الحرب الاقتصادية، مما يعزز علاقة تبعية تخدم المصالح التجارية التركية.
تتسبب سياسات تركيا في انخفاض تدفق المياه من نهر الفرات، مما ينذر بتعميق الأزمة الزراعية والغذائية في مناطق مثل الرقة. ويواجه المزارعون صعوبات متزايدة، وتتعرض آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية للخطر، مما قد يؤدي إلى أزمة أمن غذائي واسعة النطاق. تعيق مستويات المياه المنخفضة عمل أنظمة الري الحيوية، وتتعطل العديد من محطات الضخ، مما يزيد من تفاقم المشكلة. على سبيل المثال، بحيرة الفرات، مصدر المياه الرئيسي للمنطقة، انخفضت ستة أمتار دون مستواها الأمثل.
أما في العراق، فقد فاقم بناء السدود التركية والإيرانية مشكلة الجفاف. وأدت السياسات المائية التركية إلى محدودية الموارد المائية في العراق، مما يجعل زيادة الاستثمار الزراعي أمراً صعباً ويهدد الأمن الغذائي بسبب انخفاض الإنتاجية الزراعية. وأجبر نقص المياه المزارعين على هجر أراضيهم، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والنزوح إلى المدن.
ويلعب تغير المناخ دوراً مساهماً في محدودية الموارد المائية في العراق وسوريا، إلى جانب السياسات المائية التركية. قلة الأمطار الطبيعية وارتفاع درجات الحرارة وزيادة التبخر تضخم تأثير سياسات تركيا المائية، ما يجعل دول المصب أكثر عرضة للتحكم في المياه من المنبع. هذا يحول إجهاد المياه المزمن إلى أزمة حادة، ما يوفر لتركيا نفوذاً أكبر ويجعل وضع دول المصب أكثر يأساً. كما يمكن لتركيا أن تحول اللوم عن نقص المياه إلى تغير المناخ، على الرغم من أن أنشطة بناء السدود هي عامل مباشر ناتج عن النشاط البشري.
تستمر تركيا في ممارسة نفوذها المتزايد في سوريا، بما في ذلك سيطرتها على المياه، كما يلاحظ وسام سعادة. وفي الآونة الأخيرة، شهدت العلاقات المائية بين تركيا والعراق تطورات، حيث وافق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على طلب العراق زيادة حجم المياه المتدفقة عبر نهري دجلة والفرات إلى 420 متراً مكعباً في الثانية. جاء هذا القرار خلال اجتماع ثنائي في أنقرة، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ركز على تعزيز العلاقات الثنائية ومعالجة المخاوف المشتركة، وأبرزها أزمة المياه المتفاقمة في العراق.
تُقدم زيادة تدفق المياه هذه على أنها “طلب” من العراق وتحدث ضمن إطار ثنائي يركز على “تعزيز العلاقات الثنائية”. وهذا يشير إلى نهج تعاملي بدلاً من الالتزام بمبادئ القانون الدولي للمياه.
إن موقف تركيا التاريخي، الذي عبر عنه وزير الطاقة التركي في عام 2009، يؤكد أن تركيا “لا تستطيع السماح لإدارة المياه والطاقة الخاصة بنا بالوقوع في مشاكل”. هذا يشير إلى أن أي تعاون محتمل هو مشروط ويخدم مصالحها الثنائية الأوسع، مثل الروابط الاقتصادية ومبادرة “طريق التنمية” المذكورة في سياق اجتماع أردوغان والسوداني. بينما يبدو إيجابياً، فإن هذا “التعاون” يعزز موقف تركيا القوي، حيث تحتفظ بسلطة تقديرية لمنح المياه أو حجبها. إنه يمنع إنشاء إطار ملزم وعادل، وبدلاً من ذلك يديم ديناميكية العميل والراعي، حيث يجب على دول المصب أن تناشد حسن نية تركيا أو مصالحها الثنائية بدلاً من تأكيد حقوقها بموجب القانون الدولي.
يُعد الموقف القانوني التركي، الذي يرفض الاعتراف بدجلة والفرات كأنهار دولية ويرفض اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997، حجر الزاوية في قدرتها على ممارسة هذه السيطرة الأحادية. هذا الموقف، المتجذر في تفسير صارم للسيادة ومظالم تاريخية، يعيق أي حلول إقليمية قائمة على القانون الدولي.
ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة، مثل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن العدالة المناخية، قد توفر مساراً جديداً لدول المصب.
يؤكد هذا الرأي أن “جميع الدول لديها التزامات قانونية ملزمة لحماية البيئة ومكافحة تغير المناخ”، وأن أي انتهاك لهذه الالتزامات يُعد “عملاً غير مشروع دولياً يستتبع مسؤولية الدولة”.
يتناول الرأي مفهوم العدالة المناخية، مشيرا إلى أن “الدول المسؤولة تاريخياً عن تغير المناخ هي أيضاً مسؤولة عن التدهور البيئي في البلدان التي ليست مسؤولة عن هذه التغيرات”، كما يوضح خالد سليمان.
ويشمل ذلك ارتفاع درجات الحرارة، وتناقص الأمطار، وتلوث النظم البيئية. وقد فتح هذا الرأي الباب أمام التعويضات للدول المتأثرة بالفعل بالأزمة. كما أقر الرأي بأن “الحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة” هو حق إنساني.
يوفر هذا الرأي الاستشاري للعراق فرصة لتدويل قضية المياه، وتحويلها إلى مسألة عدالة دولية لصالحه، وفقاً لخالد سليمان.
فبما أن تغير المناخ يفاقم ندرة المياه في العراق وسوريا، ويُعد عاملاً مضاعفاً لتأثير السدود التركية، فإن هذا الرأي يضع إطاراً قانونياً يمكن لدول المصب من خلاله المطالبة بالمسؤولية عن الأضرار البيئية الناجمة عن تغير المناخ، وربما عن الأضرار التي تتفاقم بسبب سياسات المياه في المنبع.

رامي الأمين
كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.