مواجهة مفتوحة في قلب بغداد.. اختبار حرج لسلطة الدولة

لا يمكن اعتبار الاشتباك المسلح الذي شهدته بغداد، الأحد، مجرد حادث عابر.

في وضح النهار، اقتحمت مجموعة تابعة للحشد الشعبي مبنى تابعا لوزارة الزراعة، ثم اشتبكت مع قوة أمنية من وزارة الداخلية.

أن يحدث ذلك في عهد رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي جاء بدعم من الإطار التنسيقي الشيعي المقرّب من الحشد، الأمر يثير علامات استفهام كبيرة حول العلاقة بين الدولة وهذه الفصائل.

الاشتباك لا يشكل فقط تحديا لهيبة الحكومة، بل يُعد أيضا اختبارا لقدرة السوداني على فرض سلطة الدولة وضبط أنشطة الجماعات المسلحة داخليا وخارجيا، خصوصا بعد النجاح النسبي الذي حققته حكومته خلال حرب الـ12 يوما بين إيران وإسرائيل في احتواء الفصائل الموالية لطهران والحيلولة دون تدخلها في المواجهة.

توافق هش

تقول مرسين الشمري، الأستاذة المساعدة في قسم العلوم السياسية بكلية بوسطن، إن “رؤية قادة قوات الحشد الشعبي توافقت إلى حد ما خلال العامين الماضيين مع رغبة الحكومة العراقية في تجنب المشاركة في حرب إقليمية واسعة النطاق”.

وتضيف في حديث مع موقع “الحرة” أن “العراق القوي والمستقر سيكون قادرا على تأكيد سيادته تدريجيا، مستغلا فرصة إيران الضعيفة، لإعادة تأكيد سيطرة” الدولة.

غير أن أحداث الأحد تشير إلى أن هذا التوافق هش، وأن الدولة لا تزال في مواجهة غير محسومة مع فصائل تحمل السلاح وتمارس النفوذ داخل المؤسسات الحكومية.

أسفر الاشتباك عن مقتل ضابط شرطة ومدني، واعتقال 14 مقاتلا من الحشد الشعبي.

وبحسب وزارة الداخلية، اندلع إطلاق النار إثر اقتحام مسلحين، تابعين للواءين 45 و46 في الحشد الشعبي، للمبنى خلال عملية تعيين مدير جديد، وهما فصيلان معروفان بارتباطهما بكتائب حزب الله، إحدى أقوى الميليشيات العراقية المدعومة من إيران.

قيادة العمليات المشتركة، التابعة مباشرة لرئيس الوزراء، أكدت تورط هذه الفصائل، فيما سارعت هيئة الحشد الشعبي إلى احتواء الموقف، وأصدرت بيانا أكدت فيه التزامها بالعمل تحت إمرة الدولة، متوعدة بمحاسبة أي جهة تتجاوز الأطر القانونية.

من جانبها، دعت السفارة الأميركية في بغداد الحكومة إلى محاسبة الجناة وقادتهم، واصفة المساءلة بأنها “أساسية للحفاظ على سيادة القانون”، وقدّمت تعازيها لعائلات الضحايا.

وأشارت السفارة إلى أن القتلة ينتمون إلى كتائب حزب الله، التي تصفنها واشنطن منظمة إرهابية.

جاء الحادث بعد أيام فقط من اتصال هاتفي بين السوداني ووزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، شدد فيه الأخير على ضرورة كبح نفوذ الجماعات المسلحة الموالية لإيران في العراق.

يقول المحلل السياسي زياد العرار إن “روبيو أوضح حقيقة موقف واشنطن من الفصائل المسلحة في العراق وأعطى صورة واضحة لقوة وحجم تدخل الفصائل في المشهد العراقي الحكومي”.

ويضيف: “الحادث يشير لمدى تدخل السلاح والميليشيات في القرار الإداري ويؤكد كيف وصلت هذه الفصائل المسلحة وقياداتها العسكرية والسياسية إلى فرض إرادتها بالاستيلاء على المناصب الإدارية”.

هل تتغير قواعد اللعبة؟

إحالة المقاتلين المعتقلين إلى القضاء تمثل تطورا لافتا في كيفية تعامل الدولة مع سلوك الميليشيات، بعدما كانت مثل هذه المحاولات تُجهض في السابق بفعل ضغوط سياسية أو خوف من التصعيد الأمني.

عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، ياسر إسكندر وتوت، اعتبر أن ما جرى يعكس “جدارة الحكومة”.

ويضيف لموقع “الحرة” قوله “لن نسمح بأي تدخل من قبل أي جهة سياسية سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة في عمل الدولة. القانون فوق الجميع، ولن نسمح لأي جهة مسلحة أن تكون فوقه”.

ورغم تبعيتها الرسمية للحشد الشعبي، حافظت كتائب حزب الله على هامش من الاستقلال، ونفذت أجندات عسكرية وسياسية خاصة بها، شملت استهداف مصالح أميركية داخل العراق.

اللواءان المتورطان في الحادثة على صلة وثيقة بهذه الكتائب، ما يعيد طرح السؤال حول مدى قدرة الحكومة على احتواء الجماعات التي تُدرج ضمن القوات النظامية، لكنها لا تخضع عمليا لأوامرها.

فالعراق، الذي سعى جاهدا لإبقاء نفسه خارج صراع إيران وإسرائيل، يقف أمام تحدّ داخلي قد يضعف موقفه إقليميا ويعطي إشارات للخارج بأن الدولة ليست وحدها صاحبة القرار، ما قد يُشجع أطرافاً خارجية على استغلال الوضع، أو يزيد من مخاطر العمليات الانتقامية.

ويرى محللون أن اقتحام المبنى التابع لوزارة الزراعة لا يتعلق فقط بصراع على منصب، بل يعكس مواجهة أوسع على النفوذ داخل مؤسسات الدولة.

ويحذر زياد العرار من أن الحكومة إن قررت المواجهة المباشرة مع الفصائل، فإن ذلك يتطلب استعدادا لمواجهة شاملة قد تكون مكلفة سياسيا وأمنيا، خصوصا وأن هذه الجماعات تمتلك السلاح وهي قادرة على استخدامه.

هل تنتهي ثقافة الإفلات من العقاب؟

في ظل الضغط الداخلي والدولي، تبدو الحكومة أمام لحظة اختبار حقيقية:

إما أن تثبّت منطق الدولة والقانون، أو تتراجع أمام قوة الأمر الواقع التي تفرضها الجماعات المسلحة.

وفي الحالتين، فإن مسار بغداد خلال الأشهر المقبلة سيكشف إلى أي حد يستطيع السوداني وحكومته فرض سيادتهم على “الدولة العميقة” التي لا تزال تحتفظ بالسلاح والقرار.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/05/cropped-lcon-1-e1748543136485.png?fit=120%2C76&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading