في النصف الثاني من 2025، تراجعت أسعار النفط إلى ما دون 70 دولارا للبرميل.
المعروض النفطي يتضخم، والطلب العالمي يتباطأ، والفوائض تواصل الارتفاع.
وفي الخلفية، تتقلص قدرة “أوبك بلس” على إعادة ضبط التوازن، مع تزايد الإنتاج من خارج التحالف.
المعادلة تبدو مضطربة: أسواق متخمة، عوائد متذبذبة، وطموحات تنموية لا تقبل التأجيل.
دول الخليج، التي راهنت على رؤى تحول طموحة، تجد نفسها الآن أمام اختبار اقتصادي حقيقي:
كيف تستمر في تمويل مشاريعها غير النفطية وسط بيئة سعرية غير مضمونة؟
يقول الخبير المالي، رجل الأعمال الإماراتي، حسين القمزي إن القطاع غير النفطي ينمو، لكنه لا يزال هشا أمام تقلّب العوائد.
ويضيف: “ما بين 60% و90% من الإيرادات الحكومية في الخليج لا تزال تعتمد على النفط. هذا الرقم لا يمكن تجاهله في فترات الانكماش”.
يشير القمزي إلى ترجيحات بأن يتراوح العجز المالي بين 3 و5% من الناتج المحلي خلال 2025 و2026.
ليست هذه مجرد تحديات محاسبية. إنها مؤشرات إنذار.
في السعودية، تستدعي مشاريع رؤية 2030 مثل نيوم والقدية تمويلا ضخما ومتواصلا.
في الإمارات، تطلعات “2050” في الطاقة والذكاء الاصطناعي والصناعة لا تقبل التباطؤ.
لكن الضغط المالي بدأ يفرض معادلة جديدة:
إما إعادة جدولة الأولويات أو المجازفة بالاستقرار.
يقول القمزي إن “التحديات العالمية، كالتضخم في الولايات المتحدة والتباطؤ الاقتصادي في الصين، تلقي بظلالها على أسعار النفط، التي تراجعت من 82 دولاراً في يناير إلى 62 دولاراً في مايو، قبل أن تستقر قرب 70 دولارا، ما يفرض على دول الخليج إعادة النظر في استراتيجياتها الاقتصادية”.
التحدي إذن ليس في الرؤية، بل في تنفيذها وسط بحر متقلب، حيث لم تعد “أوبك بلس” تمسك بزمام السوق.
“المنافسة بين الدول المصدرة خارج “أوبك بلس” قد تؤدي إلى إضعاف نفوذ الدول الخليجية في السوق العالمي للنفط … فالدول المنتجة خارج التحالف مثل الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والنرويج توسع إنتاجها باستخدام تقنيات حديثة،” يقول الباحث البحريني منذر فيصل.
ويضيف أن “معظم الدول الخليجية تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط لتمويل ميزانياتها، ولذلك فإن استمرار انخفاض الأسعار بسبب فائض المعروض من الدول خارج أوبك بلس قد يفرض ضغوطًا اقتصادية ومالية على هذه الدول”.
في مواجهة هذه التقلبات، تتجه الأنظار نحو الصناديق السيادية.
تمتلك دول الخليج مجتمعة أكثر من 3.5 تريليون دولار من الأصول السيادية، وفق معهد SWFI.
يتصدرها صندوق الاستثمارات العامة السعودي بأكثر من 925 مليار دولار، وصندوق أبوظبي للاستثمار بما يتجاوز 850 ملياراً، وجهاز قطر للاستثمار بـ475 ملياراً.
هذه الصناديق ليست فقط أدوات ادخار. إنها صمامات أمان استراتيجي أيضا.
يشير الاقتصادي السعودي إبراهيم المالك إلى أهمية دور الصناديق السيادية في خلق التوازن الاقتصادي من خلال تنويع الاستثمارات داخليا وخارجيا.
“فالسعودية تتجه نحو تحقيق عوائد ضخمة خلال العقد المقبل عبر استراتيجيات تقودها الصناديق السيادية، ما يجعلها مستعدة مالياً لمواصلة تنفيذ رؤية 2030 دون أن يكون النفط المصدر الوحيد للحراك الاقتصادي، رغم التوقعات بارتفاع الطلب العالمي عليه حتى منتصف القرن”.
لكن حتى مع هذا الدرع المالي، يبقى السؤال الأصعب: ماذا عن الإنفاق الحكومي؟
برامج الدعم، الرواتب، والتحفيز المالي، كلها تحت الضغط.
يقول منذر فيصل إن الحكومات قد تبدأ، في مثل هذه الفترات، بإعادة هيكلة الأولويات، وقد تميل إلى تقليص الدعم، أو تأجيل المشاريع غير العاجلة.
ويضيف أن “هذه الضغوط قد تدفع باتجاه خصخصة بعض الخدمات العامة أو إدخال آليات تمويل جديدة مثل الدفع مقابل الخدمة، إلى جانب رفع الضرائب غير المباشرة كضريبة القيمة المضافة”.
لكن هذا الواقع، كما يرى فيصل، ليس بالضرورة سلبيا، بل هو فرصة لتسريع وتيرة الإصلاح، وتعزيز الانضباط المالي، ورفع كفاءة الإنفاق.
المرحلة الراهنة تُعرّي نقاط الضعف وتُسرّع كشف الأولويات.
فهل تكون هذه الضغوط حافزاً لمزيد من الانفتاح والإصلاح؟
في ضوء المعطيات الراهنة، تدخل دول الخليج مرحلة دقيقة من التحول الاقتصادي.
مرحلة تُختبر فيها صلابة الرؤى الاستراتيجية أمام ضغوط خارجية متزايدة، في مقدمتها تراجع أسعار النفط وتفاقم المعروض العالمي.
التحديات المالية لم تعد عابرة.
هي اختبار فعلي لقدرة الدول على مواصلة مشاريع التحول، وفي الوقت ذاته فرصة لتسريع الإصلاحات، وتعزيز كفاءة الإنفاق، وتوسيع قاعدة الإنتاج بعيداً عن الريع.
وإن كانت الصناديق السيادية تمثل درعاً مالياً في مواجهة التقلبات، فإن استدامة النمو تتطلب ما هو أكثر:
مقاربة شاملة تجمع بين الانضباط المالي والانفتاح على قطاعات جديدة، مثل الطاقة المتجددة، الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا.
في هذا السياق، لم يعد التنويع الاقتصادي هدفاً بعيد المدى، بل ضرورة ملحّة.
ضرورة لتحصين الخليج من دورات التراجع القادمة، وبناء اقتصاد أكثر مناعة في سوق عالمية لا ترحم.

سكينة المشيخص
كاتبة و باحثة و مقدمة برامج سعودية
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.