تشهد اقتصادات الخليج تحوّلا متسارعا نحو سياسات مالية أكثر تنوعا واستدامة، مع اتجاه متزايد إلى فرض ضرائب مباشرة وغير مباشرة لتعزيز الإيرادات العامة وتقليل الاعتماد المزمن على النفط.
إعلان سلطنة عُمان نيتها تطبيق ضريبة دخل على الأفراد ابتداءً من عام 2028 يمثّل لحظة فاصلة في المشهد الضريبي الإقليمي، وخطوة غير مسبوقة تمثل استجابة للتحديات المرتبطة بتقلبات أسعار النفط والعجز المالي الهيكلي.
رفعت الإمارات ضريبة الشركات متعددة الجنسية، وضاعفت السعودية ضريبة القيمة المضافة، في حين تلوح قطر بسياسات ضريبية غير نفطية في الأفق.
هكذا ترتسم ملامح مرحلة جديدة، تصبح فيها الضرائب أداة محورية لإعادة هيكلة الاقتصادات الخليجية، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن.
عُمان وكسر الخط الأحمر
في قراءة لهذه الخطوة العُمانية، يوضح الاقتصادي العُماني علوي المشهور أن السلطنة “كانت أول دولة خليجية تتجه إلى فرض ضريبة دخل على الأفراد”، مضيفًا أن “القرار يأتي استجابةً لضغوط مالية وهيكلية، أبرزها أن أكثر من 75% من الإيرادات الحكومية حتى 2024 كانت من النفط… كما وصل الدين العام إلى 70% من الناتج المحلي خلال جائحة كورونا، قبل أن يتراجع إلى 35% في 2024، نتيجة لإصلاحات ضمن ‘برنامج التوازن المالي’.”
وبحسب المشهور، فإن “الضريبة ستُفرض بنسبة 5% على الدخول التي تتجاوز 42,000 ريال عماني سنويًا… ومن المتوقع أن تشمل أقل من 1% من السكان، وتدر إيرادات سنوية بنحو 88 مليون ريال عماني”، إلا أنه يحذّر من أثر ذلك على جاذبية السلطنة الإقليمية، مؤكدًا أن “السلطنة قد تُصبح الدولة الأكثر فرضًا للضرائب المباشرة في منطقة الخليج، مما يهدد ميزتها التنافسية مقارنة بجيرانها من دول الخليج التي لا تفرض ضرائب دخل على الأفراد.”
الخليج يبحث عن نموذج جديد
في المقابل، يدعو الاقتصادي الكويتي د. فيصل المناور إلى عدم الاعتماد على الحلول الضريبية وحدها، مشيرا إلى “ضرورة لتنويع الإيرادات دون الارتهان للضرائب المباشرة”.
ويتابع: “يمكن للدولة تجاوز النموذج الريعي التقليدي دون تقويض العقد الاجتماعي، عبر بدائل ذكية تُعزز الإيرادات من داخل الاقتصاد القائم. تشمل هذه البدائل إعادة تسعير تدريجي للخدمات العامة … وتفعيل الأصول السيادية… وتنظيم الاقتصاد غير الرسمي والرقمي … وأخيرًا إصلاح الرسوم والجبايات العادلة والمحفزة.”
ويحذّر من ضيق أفق الاعتماد على الضرائب وحدها، معتبرا أن “الاقتصار على الضرائب يضيق أفق الإصلاح، بينما تكمن القوة في تحويل النموذج الاقتصادي من الداخل، عبر التمكين والتحفيز والحوكمة الرشيدة، بما يوازن بين العدالة والاستدامة.”
بين ضبط النفقات والنمو
تكمن المعضلة الأساسية، أمام دول الخليج، في كيفية تحقيق توازن دقيق بين سياسات تقشفية ضرورية، والحفاظ على جودة حياة المواطنين.
يرى د. فيصل المناور أن “على دول الخليج تجاوز النظرة المحاسبية للتقشف نحو مقاربة هيكلية تُعيد تشكيل الاقتصاد لا تقليصه”، مضيفا أن ذلك يتطلب “إعادة تعريف دور الدولة من مانح ريعي إلى محفز إنتاجي، يوجّه الإنفاق نحو قطاعات ذات أثر اقتصادي واجتماعي مرتفع كالتعليم والصحة والابتكار.”
ويحذّر من نهج تقشفي غير عادل، “ما له من أثر في تقويض الشرعية الأخلاقية. ولتحقيق التوازن يجب ربط التقشف بسياسات تحفيزية تشمل تمكين القطاع الخاص وتحسين بيئة الاستثمار.
ويشير إلى التجربة السويدية التي يعتبر نموذجها ملهما، إذ “واجهت السويد الأزمة المالية بتقشف مدروس لم يُفرّط بجودة الحياة، بل أعاد تصميم الإنفاق، وفعّل العدالة الضريبية، وعزز الكفاءة المؤسسية”.
شراكة أم عبء؟
يلفت علوي المشهور إلى أن “فرض الضرائب بشكل عادل يسهم في تعزيز الشفافية والمساءلة بين المواطن والدولة ‘إذا طُبّقت بشكل عادل وشفاف’.”
ويضيف: “الضريبة تفتح المجال لإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، بحيث يصبح دافع الضرائب شريكاً في القرار وصاحب حق في المساءلة. والتجربة الإسكندنافية مثال حيّ”.
“في السويد تبلغ ضريبة الدخل على الأفراد نحو 32% على المستوى المحلي، وتصل إلى أكثر من 50% مع الضرائب المركزية، لكن المواطنين يرون مردودًا واضحًا في خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية،” يقول.
مع ذلك، يحذّر من فقدان الثقة في حال غياب الشفافية.
“إذا لم تُستخدم الإيرادات في تحسين جودة الحياة أو لم تُدار بكفاءة، فإن فرض الضرائب قد يؤدي إلى فقدان الثقة ورفض مجتمعي”.
هل تفقد دول الخليج جاذبيتها؟
تطرح الضرائب الخليجية الجديدة تساؤلات حول أثرها على الكفاءات والاستثمارات الأجنبية.
يؤكد د. فيصل المناور أن دول الخليج تشهد “تحولات اقتصادية عميقة تشمل التقشف ورفع الدعم، وفرض الضرائب”، مضيفًا: “هذا ما يؤثر بشكل مزدوج على جاذبيتها للكفاءات الأجنبية والاستثمارات.”
ويشرح أن “مع ارتفاع التكاليف وغياب مسارات الإقامة المستقرة، بدأت جاذبية المنطقة تتراجع، خصوصاً للكفاءات العليا.”
أما الاستثمارات، فرغم وجود فرص، “تظل المعوقات التنظيمية وغياب الشفافية من أبرز التحديات، ما يقلق المستثمرين الباحثين عن بيئة مؤسسية مستقرة.”
ويختم بتحذير جوهري: “في جوهر التحول، تكمن معضلة بنيوية: الانتقال من دولة ريعية إلى إنتاجية يتطلب إعادة تعريف العلاقة مع العامل والمستثمر، وهو ما لم يُستكمل بعد، مما يُنتج بيئة انتقالية غير مستقرة. إن الحفاظ على الجاذبية مرهون ببناء عقد مؤسسي جديد يقوم على الشفافية، والعدالة، واستراتيجية بعيدة المدى تُحقق الجدوى والاستدامة”.

سكينة المشيخص
كاتبة و باحثة و مقدمة برامج سعودية
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.