في ليلة من ليالي يونيو 1989، دوّى الرصاص في قلب بكين، واختلطت صرخات شباب محتجين على القمع بأزيز جنازير الدبابات.
ومنذ ذلك الحين، تكمم الصين ذكرى تيانانمن بجدار من الصمت، لكن “العالم لن ينسى،” كما قال وزير الخارجية الأميركي، مارك روبيو، الثلاثاء، في الذكرى السادسة والثلاثين للمذبحة.
“ضحّى صينيون كثيرون بحريتهم، بل حتى بحياتهم، في سبيل الديمقراطية، ولا يزال آلاف من المدافعين عن حقوق الإنسان يعانون في السجون الصينية،” يقول تينغ بياو، الأكاديمي المتخصص في قضايا حقوق الإنسان في جامعة هانتر الأميركية.
“أولئك كانوا يمثلون صينا مختلفة عن تلك التي يمثلها شي جينبينغ والحزب الشيوعي الصيني،” يضيف في حديث مع “الحرة”.
يتجاوز القمع المنهجي الذي تمارسه السلطات الصينية على ذكرى تيانانمن مجرد محاولة لإعادة صياغة للتاريخ؛ إنه استراتيجية للسيطرة على الذاكرة الجمعية للشعب الصيني.
لا تسمح بكين بأي إشارة إلى تيانانمن على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنقي باستمرار نتائج محركات البحث على الإنترنت. وتحظر وسائل الإعلام من نشر أي رواية مختلفة عن سرديتها الخاصة بالماضي.
ربيع 1989
تنامت احتجاجات 1989 في واقع متدهور اجتماعيا واقتصاديا، وتسارعت بعد وفاة هو ياوبانغ، الزعيم المؤيد للإصلاحات، في 15 أبريل، 1989، إذ حول طلاب الجامعات الحداد على ياوبانغ إلى حركة شعبية للمطالبة بإصلاحات سياسية.
ورغم أن إصلاحات الزعيم الصيني آنذاك، دينغ شياو بينغ، الاقتصادية حققت نموا في الثمانينات، تسببت أيضا بمشكلات عديدة مثل التفاوت في الدخل، والفساد، والمحسوبية داخل أوساط الحزب الحاكم.
هكذا، خلق تزايد القلق بشأن التضخم ومستقبل الخريجين، مناخا خصبا للاحتجاج.
تحولت الدعوات الأولى للمشاركة في الحداد إلى مطالب بحرية التعبير والصحافة والتجمع، ورفع القيود المفروضة على التظاهر.
وطالب المتظاهرون بكشف الذمم المالية للمسؤولين، ووضع نظام ديمقراطي يضمن المساءلة ويحمي الحقوق الفردية.
وامتدت الحركة السلمية بسرعة إلى خارج الحرم الجامعي، والتحقت بها شرائح واسعة من المجتمع، بما في ذلك العمال والمواطنون العاديون في بكين ومدن أخرى.
يقول الأكاديمي تينغ بياو، إن “أمرين حدثا في الصين في عام 1989: حركة ديمقراطية سلمية، ومجزرة دموية. كلا الحدثين لعبا دورا عميقا في السياسة الصينية وفي الجغرافيا السياسية الدولية لأكثر من ثلاثة عقود”.
“من واجب الشعب الصيني،” يتابع، “وجميع من يدعمون الحرية وحقوق الإنسان في العالم، إحياء ذكرى مجزرة تيانانمن ومواصلة المقاومة”.
ليلة الدم
مع تصاعد الاحتجاجات، انقسمت القيادة الصينية. وبينما دعا البعض، مثل الأمين العام للحزب تشاو زيانغ، إلى التهدئة، غلبت وجهة نظر دينغ شياو بينغ الذي اعتبر الحركة “أعمال شغب”، ومهّد الطريق لقمع دموي.
في 20 مايو، أعلنت بكين الأحكام العرفية. وفي ليلة 3-4 يونيو، بلغ التصعيد ذروته عندما تدفقت قطعات من الجيش ومئات الدبابات والمركبات المدرعة إلى وسط العاصمة، وأطلقت الرصاص الحي على المتظاهرين من الطلاب والعمال لإبعادهم عن ميدان تيانانمن والشوارع المحيطة.
تفاوتت التقديرات بشأن عدد الضحايا بسبب التعتيم الرسمي. فبينما تحدثت الرواية الحكومية عن “أكثر من 200 قتيل، بينهم 36 طالبا جامعيا”، و”أكثر من 3000 جريح”، تشير مصادر غربية ومنظمات حقوقية إلى “مئات أو آلاف القتلى”، و”آلاف الجرحى”.
في أعقاب المجزرة، شنت السلطات الصينية حملة قمع واسعة، واعتقلت آلاف المتظاهرين، واجه كثير منهم محاكمات غير عادلة بتهم “الثورة المضادة”.
جدار الصمت
على مدى 36 عاما، حافظت الحكومة الصينية على جدار صمت لا يمكن اختراقه بشأن مذبحة تيانانمن. وفرضت حملة رقابة ممنهجة لـ”محو الحدث من الذاكرة”.
وقضت بمحو أي محتوى رقمي يتناول المجزرة، بينما تفلتر محركات البحث الصينية بدقة أي صورة أو إشارة أو معلومة تتعلق بالحدث.
ومُنعت وسائل الإعلام من نشر أي رواية تخالف الرواية الرسمية.
ومن يجازف بتحدي السلطات، فيُعتقل بتهم مثل “التحريض على التخريب” أو “إثارة الفتن”، حتى المصابون، الذي فقد بعضهم أطرافه، يُجبرون على الكذب أو التزام الصمت بشأن إصاباتهم.
لكن مجموعة جريئة عاندت أوامر السلطات: “أمهات تيانانمن“.
لم تتوقف أمهات الضحايا عن مطالبتهن بتحقيق مستقل، وقائمة شاملة بأسماء الضحايا، وتعويضات، ومحاسبة المسؤولين، وفق أسوشييتدبرس.
ما زلن يواجهن مراقبة شديدة ومضايقات وتهديدات، لكنهن لا يعرفن الكلل.
شموع فيكتوريا
على مدى عقود، كانت هونغ كونغ الملاذ الوحيد داخل الأراضي الصينية يُسمح فيه بإحياء ذكرى تيانانمن.
وكان عشرات آلاف الأشخاص يشاركون في وقفة الشموع السنوية في “حديقة فيكتوريا”، يستمعون إلى رسائل مسجلة من “أمهات تيانانمن” ويرفعون شعارات تحتفي بالديمقراطية.
هذا العام، احتل كرنفال للأطعمة الصينية حديقة فيكتوريا، وأوقف رجال الشرطة امرأة عبرت الحديقة وهي تحمل مصباح بعوض مضاءً، ثم أخلوا سبيلها.
ضيقت السلطات في هونك كونغ، بعد احتجاجات 2019 على تجمعات ذكرى تيانانمن، ومع فرض “قانون الأمن القومي” في 2020، حظرت الوقفة نهائيا، أولا بحجة كورونا، ثم باعتبارها جريمة.
ذاكرة العالم
مع ذلك، لا تزال الذكرى حية خارج الصين.
في 1989، قوبل القمع بإدانة دولية سريعة. وفرضت دول غربية حظر أسلحة على بكين، وألغت لقاءات رسمية عالي المستوى، ووُصفت مجزرة تيانانمن بأنها “كارثة إنسانية”.
وتواصل وزارة الخارجية الأميركية إصدار بيانات سنوية تطالب بكين بمحاسبة المسؤولين والتوقف عن قمع الناشطين.
الثلاثاء، قال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو”لن ننسى المجزرة”.
وأضاف: “اليوم نحتفل بشجاعة الشعب الصيني الذي قُتل أثناء محاولته ممارسة حرياته الأساسية، وكذلك أولئك الذين ما زالوا يعانون من الاضطهاد أثناء سعيهم إلى المساءلة والعدالة عن أحداث الرابع من يونيو 1989”.
وتحيي سفارات بريطانيا وألمانيا وكندا الذكرى بشموع رمزية أو شاشات مضيئة.
أما تايوان، فهي تستغل المناسبة لتسليط الضوء على الفرق بين ديمقراطيتها التعددية وحكم الحزب الواحد في الصين.
تقول مين ميتشل، رئيسة التحرير السابقة لإذاعة “آسيا الحرة” إن مجزرة ميدان تيانانمن لم تكن، بالنسبة لتايوان مجرد مأساة تاريخية وقعت في بلد آخر – بل كانت تذكيرا بطبيعة الحزب الشيوعي الصيني الجوهرية، وبحجم المخاطر التي تواجهها تايوان في سعيها إلى مسار سياسي واجتماعي مستقل، خالٍ من الإكراه”.
وتضيف في تصريحات لـ”الحرة”: “في عام 1989، كانت تايوان بدورها في المراحل الأولى من التحول السياسي بعد سنوات من الأحكام العرفية وحكم الحزب الواحد. ومنذ ذلك الحين، شكّل خيار تايوان بالسير في طريق الديمقراطية – رغم صعوبته – عاملاً مميزاً يفصل الجزيرة أكثر فأكثر عن جمهورية الصين الشعبية”.
ويرى تينغ بياو في تصريحا لـ”الحرة” أن “تايوان تعقد اليوم بطلة آسيا في مجال الحرية والديمقراطية. ومن أجل أمنها وازدهارها، يجب عليها دعم أولئك الذين ناضلوا ضد ديكتاتورية الحزب الشيوعي الصيني، مثل الطلاب والمتظاهرين في عام 1989”.
وتنشط جاليات الشتات حول العالم، من خلال النقاشات العامة والمعارض الفنية والتجمعات، لتجعل من إحياء الذكرى “فعل مقاومة”. وقد خُطط هذا العام لتنظيم “77 فعالية في 40 مدينة ضمن 10 دول”، ما يثبت أن ذكرى تيانانمن عصية على المحو.
المعركة لم تنتهِ
رغم مرور 36 عاما، لم تعترف الحكومة الصينية بمسؤوليتها عن المجزرة، ولم تحاسب أيا من مرتكبيها. لم تُجر أي تحقيقات رسمية، ولم تنشر أي أرقام دقيقة عن عدد القتلى والمعتقلين والمختفين.
وتواصل منظمات حقوق الإنسان، مثل “هيومن رايتس ووتش”، مطالبتها بكين برفع الرقابة، والسماح بإحياء الذكرى، وتعويض عائلات الضحايا، ومحاسبة المسؤولين، وتنظيم تحقيق مستقل، والسماح بعودة المنفيين بسبب مشاركتهم في أحداث 1989.
لكن بكين تصر على أن النمو الاقتصادي الذي شهدته الصين لاحقا “يثبت صحة” تعاملها مع احتجاجات 1989، وكأن النجاح الاقتصادي يُبرر القمع الدموي وطمس الحقيقة.
تحول تعامل الحزب الشيوعي مع الاحتجاجات والمعارضين بعد تيانانمن إلى نموذج اصطُلح عليه بـ”نموذج تيانانمن”. ويتضمن الاستخدام المكثف للقوة، الرقابة الصارمة، إنكار المسؤولية، وتغيير الرواية التاريخية لتبرير القمع.
تطبق بكين “نموذج تيانانمن” على الإويغور في شينجيانغ، والناشطين في هونغ كونغ.
لماذا نتذكر؟
يرى المدافعون عن حقوق الإنسان أن إحياء ذكرى مذبحة تيانانمن ليس مجرد تمرين في مقاومة النسيان، بل هو فعل تضامن مع الذين ما زالوا يعانون من القمع.
التذكّر تأكيد على أن حقوق الإنسان لا تسقط بالتقادم.

الحرة
اكتشاف المزيد من الحرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.