للوهلة الأولى، تبدو بولحفا (إقليم بولمان) مجرد سهل متواضع من سهول الأطلس المتوسط، بمرتفعات هادئة وصخور رمادية مائلة إلى البنفسجي مع بعض آثار الجبس. غير أن تحت هذه الطبقات الجيولوجية يختبئ عالم مفقود. يقول إدريس وغاش، أستاذ باحث بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس: «نحن هنا أمام موقع غني جدا بالحفريات».
لقد عثر الباحثون في هذا المكان على تركيز استثنائي من البقايا المتحجرة. أخشاب متحجرة، آثار فحم وعظام متكسرة تحكي قصة سهل ساحلي رطب كان يعج بنباتات كثيفة. ويوضح وغاش: «في بولحفا، يتألف تكوين الميرس 3 الذي يبلغ سمكه نحو 300 متر من مزيج من المارن الأخضر (طين وكربونات طبيعية) مع طبقات من الجبس الكثيف والحجر الجيري الرملي. وفي القسم العلوي تقل نسبة الجبس وتزداد المادة النباتية العضوية (الأخشاب المتحجرة والفحم)، مما يمنح الرواسب لونا رماديا داكنا تتخلله طبقات من المَرْن البنفسجي».
في هذا المشهد عاشت أربعة أنواع من الديناصورات العاشبة التي دخلت لاحقا التاريخ. يعلق وغاش: «هذه المنطقة الساحلية الغنية بالنباتات وفرت نظاما بيئيا مناسبا لتطور الحيوانات البرية، خصوصا الديناصورات العاشبة، وقد عثر هنا على بقايا أربع فصائل منها».
عمالقة ومدرعات
أشهرها هو « أدراتيقليت بولحفا » (سحلية الجبل)، وهو أول « ستيغوصور » (ديناصور) يُكتشف في شمال إفريقيا. مثل أقربائه في أوروبا وأمريكا، كان له جسم ضخم يسنده أربع قوائم ورأس صغير ملائم لالتهام النباتات القصيرة، وصف من الصفائح العظمية بارزة على طول العمود الفقري وذيل مزود بأشواك للدفاع.
لكن نجم الموقع يبقى «سبيكوميلوس أفير»، وهو «أنكيلوصور» غريب الشكل. فقد كانت أضلاعه تحمل أشواكا عظمية ملتحمة، وهي سمة فريدة في عالم الديناصورات المدرعة. ويضيف وغاش: « البقايا الجديدة لهذا الديناصور، التي اكتشفها فريقنا المشترك بين باحثين مغاربة وبريطانيين، سمحت بتوسيع الوصف الأصلي. فالوصف الأول المنشور سنة 2021 اعتمد على ضلع واحد فقط، أما الآن فقد تبين أن الحيوان كان يمتلك أشواكا عظمية ملتحمة على أضلاعه، وهي خاصية غير معروفة لدى أي نوع آخر من الفقريات الحية أو المنقرضة».
كما كشفت التنقيبات عن ثلاثة أسنان متحجرة تعود إلى « التورياسوريين »، وهم ديناصورات عاشبة عملاقة من العصر الجوراسي الأوسط. وتوضح التحاليل أنها كانت عريضة وذات تيجان على شكل قلب، وهي سمات مميزة لهذا الصنف المعروف في تشكيلات جيولوجية من أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وإفريقيا.
كما عُثر أيضا على جزء من عظم فخذ يعود إلى أقدم «السيراتوبودات»، وهي فرع منقرض من الديناصورات. يقول وغاش: «هذا التنوع يجعل من الموقع واحدا من أهم المواقع الحفرية في العالم، إلى جانب موقع كيم كيم في الجنوب الشرقي للمغرب».
La reconstitution de Spicomellus afer. (Crédit: Matthew Dempsey)
الأطلس المتوسط كتاب من حجر
لفهم أهمية هذه الحفريات، يجب وضعها في سياقها الجيولوجي. فقد بدأت قصة الأطلس المتوسط قبل نحو 230 مليون سنة خلال العصر الترياسي العلوي مع تفكك القارة العظمى « بانجيا »، مما أدى إلى نشوء أحواض ترسيبية وانفتاح البحر. وخلال العصر الجوراسي السفلي والأوسط تراكمت رواسب بحرية، قبل أن يحدث ارتفاع جيولوجي في العصر الباثوني يغير معالم المنطقة.
يشرح وغاش: «بعد الباثوني شهدت المنطقة انحسارا بحريا عاما تراكمت خلاله رواسب قارية تعرف بالطبقات الحمراء في المنخفضات. ثم في العصر الطباشيري المبكر وقعت عودة بحرية جديدة تواصلت إلى العصر الإيوسيني الأوسط».
في هذا السياق الجيولوجي، يحتل تكوين «الميرس» مكانة أساسية، إذ يضم بقايا أحافير عديدة وآثار أقدام ديناصورات وتماسيح. وقد قسّم الباحثون هذا التكوين إلى ثلاث طبقات: «الميرس 1» المكون من مارن متعدد الألوان مع طبقات كلسية، «الميرس 2» ذات الطابع البحري الانتقالي، وأخيرا «الميرس 3» الذي يغلب عليه الطابع البحري الضحل والجبس.
تراث يحتاج إلى حماية
غير أن فهم هذه الديناميات القديمة لا يكفي، إذ يتطلب الأمر أيضا الحفاظ على هذا التراث المهدد بعوامل التعرية والأنشطة البشرية.
ويؤكد الوغاش: «لدينا واجب جماعي لحماية هذا التراث. يجب أن يرثه أبناؤنا حيا ومثمنا ومندمجا في التنمية المحلية، لا أن يبقى حبيس رفوف المتاحف».
ولهذا يعمل مع جمعيات محلية على توعية السكان، وتطوير السياحة الجيولوجية، والسعي لإدراج المنطقة ضمن شبكة « الجيوبارك» التابعة لليونسكو.