لقد عملت خلال مسيرتي المهنية في مستعمرات بريطانية سابقة مثل أستراليا ثم ماليزيا، وفي مستعمرة فرنسية سابقة هي الجزائر. في كوالالمبور ثم في الجزائر العاصمة، كنت أقارن كثيرا بين هذه البلدان. لماذا صارت ماليزيا والجزائر، بعد ستين عاما من الاستقلال، على هذا القدر من التباين، رغم أن كليهما ذو أغلبية مسلمة، وكلاهما حصل على الاستقلال بالقوة (وبكفاح مرير في حالة الجزائر)، وفي الفترة نفسها تقريبا (1957 لماليزيا و1962 للجزائر)؟ الأولى، بلا نفط أو غاز، صارت القوة الاقتصادية الثانية والعشرين في العالم، بينما الثانية، المليئة بالنفط والغاز، بالكاد تتشبث بالمرتبة المئة والعشرين!
هل هناك لعنة على الجزائر؟ لماذا لم تنجح في انتقالها السياسي والاقتصادي؟ لماذا لم تقلع اقتصاديا بينما الهند وماليزيا، ناهيك عن سنغافورة، أصبحت من بين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم؟ لماذا لم تجد الجزائر صيغة طبيعية لعلاقتها مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، بينما الهند وماليزيا تقيمان علاقات هادئة وطبيعية مع التاج البريطاني؟ لماذا لا تقلع الجزائر بينما المغرب المجاور يجذب الاستثمارات الأجنبية؟ أحاول أن أجد تفسيرا.
من بين التفسيرات الممكنة يمكن التفكير في ما يلي:
أولا، الهند مثل ماليزيا، وحتى سنغافورة بدرجة ما، مجتمعات متعددة الثقافات. هذا التعدد الثقافي، رغم الحروب الأهلية الدامية (في الهند وقت الاستقلال، وفي ماليزيا بين الملايو والصينيين)، سمح بشكل ما بقدر من التسامح أو على الأقل التعايش. في الجزائر لم ينجح التعدد الثقافي أو الانصهار العرقي. العرب فرضوا قوانينهم ولغتهم ودينهم على الأمازيغ والمزابيين، وبالطبع لم يعودوا يقبلون بوجود الفرنسيين. في ماليزيا التعددية الثقافية قوية للغاية: الصينيون يمثلون 30 بالمئة من السكان، وهم، بطريقة ما، «يحركون عجلة البلاد» ويتمتعون بقوة اقتصادية كبيرة. هذا بالطبع ليس الحال في الجزائر.
تفسير آخر قد يكمن في طبيعة النظام السياسي. الهند توصف بأنها أكبر ديمقراطية في العالم، لكنها تحت حكم آل غاندي سابقا واليوم، ديمقراطية «صارمة» لا تتردد في فرض قيمها. ماليزيا عرفت قبضة محكمة لمهاتير محمد طيلة 24 سنة، في إطار ديمقراطية قوية. وسنغافورة كان لها لي كوان يو. ومع ذلك، فإن هذه الدول الثلاث هي ديمقراطيات برلمانية على الطريقة الإنجليزية. أما الجزائر فلم تعرف أي نظام ديمقراطي منذ استقلالها: حُكم عسكري من 1962 إلى 1979، ثم 15 سنة من الحرب الأهلية مع الإسلاميين، ثم 20 سنة من حكم بوتفليقة، مع حزب كان وحيدا ثم مهيمن بعد الانفتاح السياسي أواخر الثمانينات، وهو حزب جبهة التحرير الوطني. واليوم، رغم مظهر حكومة مدنية، لا يزال الجيش هو من يحكم فعليا.
عنصر آخر للتفسير قد يكمن في البيئة الإقليمية. الهند وماليزيا وسنغافورة توجد في محيط إقليمي شديد التنافس: النمور الآسيوية، فيتنام، كمبوديا، تايلاند، الفلبين، تايوان. هذا يشكل عاملا محفزا للنمو الاقتصادي لأن الأولوية لدى هذه الدول وحكوماتها هي التنمية الاقتصادية. فيتنام، رغم أنها مستعمرة فرنسية سابقة، وعرفت حربين ضاريتين ضد فرنسا ثم الولايات المتحدة، ورغم الصراع مع الصين، لم تحتفظ بأي ضغينة تجاه القوى الاستعمارية السابقة، بل اختارت بشكل واعٍ أولوية التنمية الاقتصادية.
«فرنسا الاستعمارية، المقتنعة بتفوق نموذجها، لم تترك روحا أو مبادئ ليبرالية، بل تركت مؤسسات «صلبة»، نقيضا للروح التي خلفها الإنجليز»
— كزافيي دريانكو
البيئة الإقليمية بالفعل عامل مهم، وربما أكثر من غيره. الدول الآسيوية، المنضوية في تحالفات مثل «آسيان»، تستفيد من منافسة مستمرة ومحفزة. أما الجزائر، فباستثناء المغرب المجاور، فهي محاطة بدول متأخرة. لا توجد تحالفات أو تكتلات إقليمية فاعلة: محاولات بناء مغرب عربي موحد فشلت، والعلاقات بين الجزائر والمغرب قُطعت قبل أربع سنوات. إلى الجنوب، دول الساحل غارقة في الفقر والحروب، وإلى الشرق ليبيا غارقة في حرب منذ 15 عاما. بخلاف «آسيان»، لا توجد تحالفات إقليمية حقيقية سوى الاتحاد الإفريقي.
ثم إن النزاعات الإقليمية قد تشكل عاملا آخر. الجزائر والمغرب عرفا صداما عسكريا منذ 1962. قضية الصحراء الغربية لا تزال بالنسبة للجزائر مصدر توتر. دول الساحل في حرب دائمة، ليبيا في حرب أهلية، ومالي على شفا مواجهة مع الجزائر. لكن ربما هذا ليس التفسير الحاسم، فآسيا بدورها عرفت حروبا كثيرة: الاستقلال الدموي للهند، النزاع الهندي الباكستاني منذ 1947، الحرب الثانية بينهما سنة 1971 التي أدت إلى تفكيك باكستان وقيام بنغلاديش، سباق نووي، مناوشات عسكرية حديثة، أفغانستان في حرب منذ 30 عاما، حروب الهند الصينية وفيتنام، الحرب في كمبوديا ولاوس. إذن لا المغرب العربي ولا آسيا كانا في منأى عن الحروب. فلنبحث عن تفسير آخر.
أميل إلى الاعتقاد بأن الفارق بين الجزائر، المستعمرة الفرنسية السابقة، وماليزيا، المستعمرة البريطانية السابقة، يكمن في أساليب الاستعمار ذاته. هذا، في رأيي، مؤشر أساسي. فالإنجليز في القرن التاسع عشر، خلال استعمارهم، لم يدمروا النظام السياسي والاجتماعي القائم: أبقوا على المهراجات في الهند والسلاطين في ماليزيا، وإن كانوا يحكمون من وراء الستار عبر إدارة خفيفة تكتفي بالمراقبة والتوجيه والضبط. نجحوا في أن يتركوا وراءهم، في الهند وماليزيا وسنغافورة وكينيا، وبالطبع في الدومينيونات السابقة مثل أستراليا وكندا، ليس مؤسسات بقدر ما هو عقلية أو «روح عامة».
هذه الروح، ذات الطابع الليبرالي، ارتكزت على ثلاثة مبادئ ما تزال حاضرة: فصل السلطات على الطريقة الإنجليزية، قضاء مستقل نسبيا، صحافة ناقدة نسبيا، وأخيرا الإيمان بحرية المبادرة. باختصار، اعتمد الإنجليز على شكل من «القوة الناعمة». أما الفرنسيون، في مشروعهم الاستعماري، فقد سعوا إلى فرض مؤسساتهم. فرنسا الاستعمارية، المقتنعة بتفوق نموذجها، لم تترك روحا أو مبادئ ليبرالية، بل تركت مؤسسات «صلبة»، نقيضا للروح التي خلفها الإنجليز. فرنسا أنشأت في إفريقيا والمغرب العربي وآسيا مؤسساتها الخاصة، محت السلطة التقليدية لتفرض النظام الفرنسي: حكام أصبحوا مفوضين سامين ثم ولاة، إدارات للضرائب والخزينة، مدارس إدارية على نمط «المدرسة الوطنية للإدارة»، وما زالت الجزائر اليوم تملك ولاة على نمط المحافظين الفرنسيين، وإدارات مركزية منسوخة عن نظيراتها الفرنسية، ومجلسا دستوريا، ونظاما قضائيا مزدوجا إداري وقضائي.
طبعا كانت هناك استثناءات. الاستعمار البريطاني بدوره كان قاسيا: الهند، جنوب إفريقيا، روديسيا ثم زيمبابوي، إبادة السكان الأصليين في أستراليا، إخضاع الفرنسيين في كيبك، كلها شواهد على العنف الإمبراطوري. وإذا كانت الجزائر تجسد «القاعدة» التي وصفتها، فإن المغرب شكّل استثناء. فرنسا احترمت فيه، كما في تونس، المؤسسات الملكية التقليدية، بل عززتها وأضافت إليها بعض المبادئ والأساليب كما فعل الإنجليز في أماكن أخرى. والنتيجة اليوم واضحة: أكثر من ستين عاما بعد الاستقلال، من دون نفط أو غاز، أصبح المغرب إحدى القوى الاقتصادية البارزة في إفريقيا، بينما جاره يعيش على ريع مزدوج، نفطي وذاكري.
باختصار، فرنسا تركت مؤسسات، وبريطانيا تركت روحا.
وأعتقد أن في هذا يكمن التفسير الأهم للسؤال الذي طرحته في البداية: لماذا بعد ستين عاما من الاستقلال، صارت المستعمرات البريطانية السابقة، الهند وماليزيا وسنغافورة، وبالطبع أستراليا وكندا، من بين أكثر دول العالم تقدما، بينما مستعمراتنا السابقة، باستثناء المغرب وفيتنام، تتذيل التصنيفات. الحرب، الإسلام، البيئة الإقليمية كلها عوامل مفسرة، لكن أساليب الاستعمار الفرنسي والبريطاني تبقى، على الأرجح، التفسير الأعمق والأكثر دلالة.