لا شك في أهمية إعلان فرنسا قرارها بالاعتراف بفلسطين كدولة، نظرًا لأهمية ومكانة ودور فرنسا أوروبيًا وعالميًا، إذ إن هذا الاعتراف سيفتح الباب أمام المزيد من الدول للاعتراف بدولة فلسطين، وله جوانب كثيرة مهمة: أولاً، إن فرنسا دولة عضو دائم في مجلس الأمن، مما يوفر دعمًا أكبر وأقوى أمام اعتراف الأمم المتحدة بقبول فلسطين دولة كاملة العضوية تحت الاحتلال، ويضع على الأمم المتحدة المسؤولية المباشرة لإنهاء الاحتلال عن دولة عضو.

ثانيًا، إن لفرنسا علاقات مع العديد من الدول، وخاصة في أفريقيا، مما يعني توفر الأغلبية اللازمة لقبول فلسطين عضوًا كاملاً في الأمم المتحدة، وسيشكل هذا الاعتراف ضغطًا على إسرائيل وحتى على الولايات المتحدة.

ثالثًا، إن لهذا الاعتراف جانبًا مهمًا تاريخيًا وقانونيًا وسياسيًا. تاريخيًا، هو تصحيح لمواقف تاريخية سابقة في تبني كل السرديات الصهيونية ودعم الحركة الصهيونية في تحقيق قيام إسرائيل كدولة، من خلال توفير كل الدعم منذ مؤتمر بازل الصهيوني عام 1897 وتسهيل أهدافها وصولاً إلى قرار الأمم المتحدة رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين وقيام إسرائيل كدولة وقبولها في الأمم المتحدة.

وهذا الاعتراف ليس مجرد اعتراف شكلي، بل يعني القناعة بالحقوق الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وقيام دولته، وأن للفلسطينيين حقًا تاريخيًا على أرضهم. وسيفتح هذا الاعتراف الباب أمام بقية الدول الأوروبية للاعتراف، ليرتفع عدد الدول الأوروبية إلى 12 دولة.

ولا يعني هذا الاعتراف التخلي عن دعم فرنسا لإسرائيل بقدر ما هو توازن في العلاقات، وكما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: نعم للسلام، نعم لأمن إسرائيل، نعم لدولة فلسطينية دون حماس. ولا شك أن هذا الاعتراف تقف وراءه الدبلوماسية العربية والدور الذي تقوم به دول عربية مؤثرة مثل مصر والسعودية والإمارات، لما لها من علاقات مميزة مع فرنسا.

وهناك جانب آخر مهم في هذا الاعتراف، وهو أن فرنسا من أكثر الدول الأوروبية التي لها علاقات قوية وشاملة مع إسرائيل، وساهمت تاريخيًا في دعم إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا.

ولفهم أبعاد وتداعيات الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، لا بد من التذكير بالسياق التاريخي للعلاقات الفرنسية الإسرائيلية، وابتداءً لا بد من فهم أن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، كما قال الرئيس الفرنسي، يرتبط بالسلام العادل وبالأمن الإسرائيلي، وربط هذا الاعتراف بتوسيع دائرة التطبيع والاعتراف عربيًا وإسرائيليًا. وتاريخيًا، مرت العلاقات الفرنسية بمراحل متعددة: مرحلة التحالف القوي إبان الجمهورية الرابعة، وأساس العلاقة معارضة القومية العربية والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ومرحلة ديغول بدعم إسرائيل بشرط ألا تكون مبادرة للحرب، وكانت نتيجة حرب 1967 حظر الأسلحة على إسرائيل، ومرحلة جورج بومبيدو عام 1969 وبقاء حظر الأسلحة، ثم مرحلة ديستان عام 1974 والاقتراب من دول الخليج العربي وإعلان البندقية عام 1979 والاعتراف بحق الفلسطينيين في الحكم الذاتي، ثم مرحلة الرئيس ميتران ورغم صداقته لإسرائيل دعا إلى منح الفلسطينيين حق تقرير المصير، وفي عام 1989 سمح بزيارة عرفات لفرنسا بعد قول عرفات إن ميثاق المنظمة الذي يدعو لتدمير إسرائيل أصبح قديمًا. ومرحلة الرئيس شيراك عام 1995 الذي حافظ على علاقاته بالرئيس عرفات، وتعرض لحملة نقد أمريكية إسرائيلية تتكرر اليوم مع الرئيس ماكرون. أما مرحلة ساركوزي عام 2007 فاتسمت بقربه للجالية اليهودية التي صوتت له، ولم يتخذ أي مبادرات فعالة رغم دعوته للسلام. أما مرحلة الرئيس هولاند عام 2012 فكان برنامجه الانتخابي يتضمن اعترافًا بفلسطين، إلا أنه تخلى عن ذلك منذ اليوم الأول لرئاسته. أما مرحلة الرئيس ماكرون اليوم فتشكل تحولاً مهمًا في السياسة الفرنسية، وإعلانه عن اعترافه بفلسطين دولة في أيلول (سبتمبر) القادم أمام الأمم المتحدة.

ولا شك أن هذا الاعتراف تقف وراءه دبلوماسية عربية فاعلة ومؤثرة. وهذا الاعتراف سيشكل مرحلة مهمة في اكتمال الاعتراف بفلسطين، وسيفتح الباب أمام باقي الدول الأوروبية وغيرها من الدول، لما لفرنسا من دور أوروبي ودولي. وسيكون دافعًا لاعتراف بريطانيا. ولما لهذا الاعتراف من تأثير، تتعرض بسببه فرنسا وسياسة ماكرون لنقد وهجوم قوي من قبل إسرائيل.

ويبقى كيف يتم ترجمة هذا الاعتراف إلى سياسات ضاغطة على إسرائيل لإنهاء الاحتلال، وسيضع الولايات المتحدة وحيدة في مجلس الأمن عند مناقشة القضية الفلسطينية والقبول بدولة فلسطينية كاملة العضوية. ويفرض هذا الاعتراف مسؤولية كبيرة على الجانب الفلسطيني، وتخلي حماس والمنظمات الأخرى عن سياسات التشدد والقوة العسكرية، ولتبني سياسة فلسطينية أكثر واقعية والتزامًا بالمقاربة الدولية، لأن أهمية هذا الاعتراف ستجدد المقاربة الدولية وتفعيلها كواقع ملموس على الأرض، وأمام هذه المقاربة لا تملك إسرائيل وحتى الولايات المتحدة إلا التكيف والقبول بالتفاوض عن ماهية الدولة الفلسطينية. ويبقى أنه بهذا الاعتراف سيرتفع عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 150 دولة، وأن هذا الاعتراف تمت ترجمته بمؤتمر نيويورك لحل الدولتين برئاسة السعودية وفرنسا، والذي أكد على حل الدولتين، وأن قيام الدولة الفلسطينية مفتاح الاستقرار والأمن والتنمية للمنطقة والعالم.