المال «اليتيم» والوفاء

يصح أن نصف «مال اليتيم» بـ«المال الضعيف» الذى لا يجد من يحميه، ويمكن لمن يقوم عليه أن يستبيحه ويستولى عليه، ويستحله لنفسه. قال تعالى فى الآية (34) من سورة الإسراء: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».

كل مال ضعيف «يتيم»، أو مال بلا أب، وقد يكون هذا المال ملكاً لفرد، وقد يكون مملوكاً لمجموع. فالطفل الذى يموت عائله ويترك له ثروة يقف على «مال ضعيف» يقوم عليه «وصىّ» مطلوب منه أن يحافظ عليه حتى يكبر الصغير ويقوى ويبلغ أشده ويبيت قادراً على أن يدير ما تركه له آباؤه، كذلك المال العام الذى قد يعتبره بعض ضعاف الضمير مالاً يتيماً لا أب له، ومن الوارد استحلاله، أو الاستيلاء عليه لصالح أنفسهم، وحرمان «المجموع» منه.

نهى الله تعالى عن الطمع فى المال الضعيف وطالب القائمين عليه، سواء كان مالاً فردياً أو مملوكاً لمجموع، باستثماره وحسن إدارته حتى يكثر ويزيد، ويخدم صالح الفرد أو الجماعة: «بالتى هى أحسن».

ويتكامل مع فكرة الإحسان فى إدارة المال الضعيف فكرة «الوفاء بالعهد». فالإنسان مطالب بالوفاء بكل ما يعاهد الآخرين عليه، أو ما يتعاقد عليه معهم، أو ما يؤتمن عليه.

يقول الطبرى فى تفسير قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»، أى أوفوا بالعقد الذى تعاقدون الناس، فى الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضاً، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود. فالوفاء بالعهد لا بد أن يكون فى كل أمر من أمور الدنيا وإلا فسدت الحياة.

فعدم الوفاء بعهود الحرب والسلام يؤدى إلى اضطراب أحوال الدنيا، وإرباك أحوال الناس، وتخريب العمران، وقتل الأرواح. والمؤمن مطالب بأن يفى بما تعاهد عليه مع أعدائه، ولا يتحرك ضدهم إلا إذا غدروا بالعهد.

عدم احترام التعاقدات الأخرى -غير عهود الحرب والسلام- يعد مقدمة خطيرة لتخريب العلاقات بين البشر وتدمير المجتمعات، فلك أن تتصور كيف يكون حال أى مجتمع لو غدر صاحب العمل بالتعاقد المبرم مع من يعملون لديه من موظفين وفنيين وعمال، أو غدر المستأجرون بمالكى البيوت والعقارات، أو غدر الملاك بالمستأجرين، أو غدر أصحاب المال والأعمال بما بينهم وبين غيرهم من تعاقدات.

أحوال المجتمعات لا تستقيم إلا بالوفاء بالعهود والتعاقدات، لذا تجد أن البشر صاغوا القوانين التى تضمن وفاء بعضهم البعض بالعهود، فالإنسان مسئول قانوناً عما تعاقد عليه، وهو محاسب مدنياً على ذلك، والمسألة لا تتوقف عند هذا الحد، فقد نبهت الآية الكريمة إلى أن الإنسان محاسب على وفائه أو عدم وفائه بالعهود أمام الله يوم القيامة.

فالإنسان مسئول عن عهوده وتعاقداته فى الدنيا، وسوف يسأل عن مستوى التزامه بها أمام الله تعالى فى الآخرة «إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».

هذه الإشارة تحمل تحذيراً خطيراً لكل إنسان من أن يغدر بما عاهد الآخرين عليه، لأنه يفتح على نفسه وعلى مجتمعه بذلك بوابة من بوابات جهنم.