«الفيديو.. بالفيديو»

نحن الآن على شفا طفرة مرتقبة فى أسعار الهواتف المحمولة، خاصة تلك التى تزيد فيها إمكانيات الكاميرا ودقة الفيديو ونقاء الصوت وسعة التخزين، لا لشىء منطقى، سوى أن المصريين وحدهم أضافوا على استخدامات الهاتف المحمول وظيفة جديدة، إذ تحوَّل فى يد حامله إلى ضبطية قضائية، ودليل لا يقبل الشك فى علوم الأدلة، وأداة لضبط وردع الخارجين عن القانون، بل وأيضاً وثيقة تكشف المزورين وتدحض الادعاءات.

كل هذا لم يكن فى ذهنية مخترع الهاتف وكاميرته، بل هو من قبيل «التاتش المصرى الأصلى».. لذا ليس من المستغرب أن تجد إعلاناً لهاتف محمول فى السوق المصرية يتصدَّر بالعبارة «معنا تحبط الجريمة قبل أن تقع»، أو أن تعرض الشاشات إعلاناً بطله آسر يس وهو قاضٍ على المنصة ينادى على المتهم ويحكم عليه بأغلظ العقوبات، ممسكاً بالهاتف المحمول، مشيراً إليه وناطقاً باسم العدل: «الجريمة مسجلة بدقة 200 ميجا بكسل»، فينهار المتهم وهو يلعن اليوم الذى أوقعه فى مرمى العدسة التى «تلتقط دبة النملة» وتسمع لها صوتاً.

منذ فيديو «شهاب» والمود العام لمواقع التواصل الاجتماعى هو الفضح الاجتماعى، الذى يندرج تحت بند «انتهاء مخزون الستر» لدى البعض، وفيديو المدير التنفيذى آندى بايرون ومديرة الموارد البشرية كريستين كابوت فى حفل فرقة «كولد بلاى» خير دليل، أو تحت بند «تطهير المجتمع»، وفيديوهات المواطنين الذين وقعوا ضحايا لبلطجة عدد غير قليل من السائقين خير دليل.

ما الذى يستدعى أن يسير سائق فى الشوارع حاملاً سيفاً من الأساس؟، ومن أين تتوافر لهم هذه النوعية من الأسلحة؟.. والسؤال الأهم: ماذا حدث فى المسافة بين تصوير الفيديو وانتشاره على السوشيال ميديا، هل صاحبه على قيد الحياة، أم أن الأمر تطور لكارثة أكبر والفيديو مجرد «ماضى»؟

كل الأسئلة مشروعة، وكل الإجابات سيناريوهات محتملة، لكن مما لا شك فيه أن ثمة تغيراً يحدث الآن، ليس فى اللجوء للتصوير وإثبات التعدى فحسب، لكن فى الإيمان بأن القانون يُفَعَّل، ويحمى ويعيد الحق لأصحابه، يوم أن يتخلى أحدهم عن ذراعه ويتقبَّل تجاوزاً من أحدهم، ويوثقه بالصوت والصورة، ويحيل هذا التوثيق إلى المسارات القانونية، فإنه يؤسس لمبدأ لم يجد له سوقاً بين المصريين لتروجه، وهو مبدأ السيادة للقانون.

وأننا جميعاً أمام القانون سواسية، لا فضل لأحد سوى بالأدلة، وهو ما قطعت فيه مصر شوطاً كبيراً، بالجاهزية على مستوى البنية التحتية واللوجيستيات، وتحديث منظومة الدفاع المدنى من جانب بأن ألزمت كل المنشآت بوضع كاميرات فى اتجاهات مختلفة، بحيث تخلق كل هذه الكاميرات بانورما متكاملة لكل منطقة، ترى فيها الفعل من كل زواياه.

الأمر نفسه أصبح من أساسيات أماكن العمل والمصالح الحكومية وإشارات المرور والميادين الكبرى وحتى المدارس والمستشفيات ومراكز تقديم الخدمات، والنوادى ومراكز الشباب وكل الأماكن التى من الممكن أن تشهد جموعاً من البشر وتستلزم أمناً للسيطرة عليهم.

ورغم هذا فإن الخطر ما زال قائماً، إذ فطن المصريون للعبة، وأصبح إشهار الموبايل، سواء بين طرفى الصراع أو ممن يرصده عن بُعد، علامة على تطور الأمر، فلن يصمت أحدهم على توريطه بالصوت والصورة، وربما يتسبب هذا فى سيناريو أكثر بشاعة، أو فى وقوع جريمة بالفعل، أو أن يتحول كل موقف من مجرد فيديو يحمل اتهاماً إلى «فيديو مقابل فيديو».

وهو التطور العبقرى لمبدأ «محضر قصاد محضر.. ونتصالح فى النيابة».. صحيح أن الحالة إيجابية حتى الآن، وتقدم فيها جهات الأمن النموذج فى تحقيق الردع، سواء تم إرسال الفيديو على صفحة الداخلية مباشرة أو نُشر الفيديو على حسابات شخصية لصاحب الواقعة، لكن التطور المرتبط بسلوك المجتمع فى التحايل على كل ردع ومواجهة كل آلية يمكن أن يعيد هذا المجتمع كرَّته الأولى يهدد الفكرة وربما يوئدها، مثل محاولات وأفكار كثيرة، وجدت التحايل عليها قبل أن تجد الترويج لها.

الشاهد مما سبق أن خناقات شوارع كثيرة ستنتهى، ومشاحنات أكثر لن تكتمل فى حضور كاميرات الهواتف المحمولة، وأن كثيرين سيصمتون خوفاً، ومثلما هبط «آندى» تحت الكرسى وأدارت «كريستين» ظهرها للكاميرا التى فضحت خيانتهما، ستختفى وجوه وأفعال كثيرة من أمام الكاميرات.

ولحينه.. استوصوا بكاميرا الموبايل، ففيها «السؤال والجواب.. مفتاح السر وحل اللغز».