لماذا لا تعلن «حماس» تنازلها؟

الغرق فى فتنة الإخوان سذاجة استراتيجية.. والإفراط فى الجدل العقيم حول خيانتهم وبرجماتيتهم ونذالتهم، التى هى ثوابت تجاوزناها منذ أكثر من عقد، هزل سياسى لا يليق بمن كنسوا الجماعة فى «30 يونيو 2013» من مصر، وقضوا على مشروعها واقتلعوا تنظيمها من غالبية البلاد العربية.

لهذا فلا داعى للمزايدة فى إثبات المثبَت وتأكيد المؤكَّد، والانشغال بذلك عن المعركة الأساسية، معركة إنقاذ غزة من المصير الذى تساق إليه، وإيقاف الجريمة التى ترتكب فى حقها، والتى تتشارك فيها حركة حماس مع حكومة نتنياهو الدينية المتطرفة.

التوحش الذى تضخم ويعربد بالقرب من الحدود المصرية، التطرف المجنون الذى فضحه الطوفان عند جيران الهنا أولاد العم، الذين كنا نعشم أنفسنا فيهم بوجود بعض من إنسانية، يمكن أن نتصالح بها معهم، ونعقد سلاماً عادلاً ودائماً.

فإذا بهم يغرقون فى صهيونيتهم التى لوّثت عقولهم بأفكار التطرف الدينى، فازدادت كراهيتهم وعداؤهم لكل محيطهم العربى، وزادت شراهتهم فى سرقة مزيد من الأراضى، ثم التذرع بأتفه الحجج للقضاء على أى قوة، يشكون للحظة أنها يمكن أن تشكل خطراً مستقبلاً، إنها دولة الاحتلال التى تمارس البلطجة بلا رادع، تحركها أطماع لا تنتهى، منحها الدين قدسية، سمحت لقادة الفكر الصهيونى الدينى بالهيمنة على النظام السياسى، ومكّنتهم من قيادة القطيع داخلياً وخارجياً.

وفى ظل هذا الواقع، لم أفهم حتى الآن سبب عدم تنازل حماس عن سلطتها وسلاحها بصورة علنية ورسمية، إنقاذاً للشعب وللقضية، قبل أن تلتهمها النيران الإسرائيلية التى أججتها حماس بما ظنته طوفانها، فتحول إلى بركان غضب أوصل فلسطين إلى نكبة جديدة.

كنت ومثلى كثيرون، نمنى أنفسنا بأن يكون للحركة بعض من سمتها كمجموعة تناضل تحت راية الدين، لكنه يبدو أنه دين آخر غير الذى نعرفه، أو كما تساءل شاعرنا المبدع جمال بحسرة، فى قصيدته الشهيرة: «دين أبوهم، اسمه إيه؟».

فى سنة 1992، كنت طالباً فى كلية الهندسة جامعة القاهرة، وكتبت لأول مرة فى حياتى منشوراً سياسياً بعنوان «النهاية»، احتوى هجوماً حاداً على أُسر التيار الدينى فى الجامعة، وأصيب كل من اطلع عليه بالفزع، فقد كان يحوى هجوماً فى محله، وتفكيكاً موضوعياً لمشروع «الدين السياسى»، بلغ بى إلى حد وصف جماعة الإخوان بأنها صهيونية، مفنداً الاتهام بما رصدته من تشابه حركى وفكرى بين أداء الجماعة والحركات الصهيونية، وتلاقى المصالح الذى جعل من المشروعين يبتعدان ويلتقيان كل حين على مائدة تكشف عمق المودة والتأثير والتأثر بينهما، وكيف أن كليهما يغذى وجود الآخر وينشط من عملية الحشد والحشد المضاد وفق أفكار، كلها مغلوطة أو مفبركة أو مدلسة، تلتقط حرفاً من كتاب الدين وتكمل الجملة بأفكار تيودر هرتزل وحسن البنا وبن جوريون وجابوتينسكى وسيد قطب وعمر التلمسانى.. وأخيراً المرشد الجديد بنيامين نتنياهو.

وفى سنة 2025، لم تدهشنى مظاهرات الإخوان أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، ولم أنزعج من تصريحات خليل الحية ومن سبقوه ومن سيأتون بعده، ممن تخصصوا فى الهجوم على بلادى، وتجرأوا بإهالة تراب ترهاتهم، محاولين الانتقاص من عطائها المخلص.

ما يزعجنى ويثير قلقى حقاً هو الاندفاع فى معركة لا تليق بنا سمتها الصوت العالى لا الموضوعية، معركة تلهينا عن الهدف. فالأمر جد خطير، لا تفقدونا التركيز فى محاصرة ترامب ونتنياهو بدماء غزة وجوعى غزة، فهذه مسئوليتهم أمام العالم، ومعلقة فى رقاب شعبهم وجيشهم.

لا تضيّعوا جهداً فى رد الهجوم على الصغار، فهذا أقصى ما يحلم به من يوظفهم ويستخدمهم عند الضرورة.

وأخيراً، تم طبع منشور «النهاية» وتم توزيع 40 ألف نسخة منه فى جامعة القاهرة وجامعات أخرى، كنت قد احتفظت حتى وقت قريب بنسختين منه فقدتهما بسبب التنقل بين البيوت، لكنى لم أفقد سطور ما كتبت، وإيمانى بخطر الدين السياسى فى عالمنا العربى، وأثره السلبى على مصير شعوبنا المسكينة.

ويشهد على منشور «النهاية» أصدقاء أعزاء شاركونى وقتها الخطر إيماناً بدورنا الوطنى فى هذه السن المبكرة، وقتها كنا سباقين فى فضح الجماعة المارقة التى ترقص فى كل ميدان أملاً فى ساعة حظ جديدة فى قصر الاتحادية.. أو فى أى قصر حتى لو كان من القصور التى تقصفها طائرات جيش الاحتلال.