والسؤال: لماذا الآن؟ لم يأتِ الاعتراف الأوروبى من منطلق صحوة أخلاقية، بل نتيجة ضغوط هائلة متراكمة واحتجاجات شعبية أربكت الحكومات، وحرج سياسى بسبب صور المجازر اليومية وحرب الإبادة والتجويع المتواصل لسكان قطاع غزة، بشكل تدمى له القلوب وينطق الحجر، فضلاً عن مذكرة «الجنائية الدولية» بحق نتنياهو وغالانت وزير دفاعه السابق، وخوف براجماتى صِرف من انفلات الوضع بما يهدد مصالح أوروبا فى الشرق الأوسط، فمنذ أكثر من 667 يوماً، وغزة تواجه حرب إبادة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، أكثر من 60 ألف شهيد، وأكثر من 150 ألف جريح، وأكثر من مليونى مهجَّر، كل ذلك وسط صمت أوروبى مريب، وفى ذروة المجزرة وبينما تهدد إسرائيل باجتياح ما تبقى من غزة واحتلالها بالكامل، تعلن 15 دولة أوروبية نيتها الاعتراف بفلسطين فى خطوة متأخرة ومنفصلة عن الواقع بلا أى تأثير على مجرى الإبادة والمجاعة.
ربما تشير موجة الاعترافات الأوروبية إلى تحول تدريجى فى مواقف الدول الغربية، التى كانت تقليدياً تقدم دعماً غير مشروط لتل أبيب، خاصة فى ظل تصاعد الانتقادات لسياسات إسرائيل فى قطاع غزة والضفة الغربية بما فى ذلك الاستيطان والانتهاكات الإنسانية، خاصة أن الاعتراف يُنظر إليه كضغط سياسى على حكومة بنيامين نتنياهو لوقف الحرب فى غزة والعودة إلى طاولة المفاوضات لدعم حل الدولتين، الذى بات يروَّج له بقوة فى الأوساط الدولية، بالإضافة إلى أن هذه الخطوة تأتى فى سياق الأزمة الإنسانية المتفاقمة فى غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، حيث تسببت العمليات العسكرية الإسرائيلية فى مقتل وإصابة عشرات الآلاف إضافة إلى المجاعة والنزوح الجماعى، وتصاعد وتيرة ضغط الرأى العام الأوروبى خاصة فى ظل انتشار صور الدمار والمعاناة وإحراج الدول أمام شعوبها ودفع الحكومات الأوروبية إلى اتخاذ مواقف تبدو داعمة للفلسطينيين، لتهدئة الغضب الشعبى واستعادة بعض المصداقية الأخلاقية والإنسانية.
فى الغالب يمكن القول إن الاعتراف يأتى كمحاولة لـ«الهروب إلى الأمام» لتجميل صورة هذه الدول بعد اتهامات بالتواطؤ مع إسرائيل سياسياً وعسكرياً منذ اللحظة الأولى للحرب، فالحكومات الأوروبية تواجه ضغوطاً متزايدة من شعوبها، وهذه الضغوط تأتى من ناخبين بما فى ذلك الأقليات المسلمة، ومنظمات المجتمع المدنى التى تدعو إلى دعم الحقوق الفلسطينية.
تُتهم الدول الأوروبية التى طالما دعمت إسرائيل، بالنفاق، لأن الاعتراف يأتى بعد عقود من الصمت والدعم الضمنى للاحتلال وتبرير كل سلوكياته الإجرامية إزاء الفلسطينيين، فمثلاً فرنسا التى بادرت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وتبعتها بريطانيا، ورغم دعمهما النظرى لحل الدولتين، لم تقدما خطوات عملية كبيرة لدعم السيادة الفلسطينية قبل الآن، ومن هنا يرى البعض أن الاعتراف خطوة رمزية تهدف إلى تحسين صورة هذه الدول أمام شعوبها، دون تقديم دعم مادى أو سياسى حقيقى للفلسطينيين، خاصة فى ظل استمرار الدعم العسكرى والاقتصادى لإسرائيل من بعض هذه الدول.