الخليل / PNN / في أحد أزقة البلدة القديمة المتعرّجة، وبين جدران تعود إلى أكثر من ٣٠٠ عام، ينبض مكانٌ خاص بروح الحياة والأمل… مكتبة صغيرة لا تشبه غيرها.، تمضي عبير العسيلة بخطى ثابتة، تمسك في يدها كتابًا مصوّرًا، وتحيط بها مجموعة من الأطفال. المشهد يتكرّر كل يوم، لكنه ليس عاديًا: امرأة تقود قافلة صغيرة من الأحلام، تمشي نحو مكتبة أعادت بناءها من حجارة قديمة وروح جديدة.
من مكان لغذاء المعدة الى مكان لغذاء الروح
عبير العسيلي، ابنة البلدة القديمة، لم ترضَ أن يظل المكان الذي ورثته عن عائلتها – والذي كان سابقًا “مِلحمة ”– مغلقًا وعاطلاً عن الحياة. المكان بحد ذاته قطعة من التاريخ، لكن الزمن ترك بصماته عليه. “قررت أن أعيد له روحه، بس بطريقتي”، تقول عبير، وهي تمسح الغبار عن رف مليء بالقصص المصورة.
بجهدٍ شخصي، وبدعم من بعض الأصدقاء والمحبين، بدأت عبير عملية ترميم شاقة للمكان. لم يكن مجرد ترميم حجارة قديمة، بل إعادة إحياء لذاكرة وهوية ومكان كان يمكن أن يُنسى. حولته إلى مكتبة صغيرة، لكنها مفعمة بالحياة.
“مش بس مكتبة كتب، هذا مكان آمن للأطفال”، تضيف عبير. المكتبة اليوم تضم عشرات الكتب المخصصة للأطفال، لكنها تحوّلت إلى أكثر من ذلك. تنظم عبير فيها ورشات رسم وقراءة، عروض دمى، لقاءات توعوية، وأنشطة تعليمية تفتح الآفاق أمام الأطفال، خاصة أولئك الذين يعيشون في مناطق “حسّاسة” داخل البلدة، محاطين بضغوط الاحتلال وواقع معيشة صعب.
و توضح عبير أن الفكرة من افتتاح المكتبة هو إعادة قراءة الكتب ورقيًا وليس عن طريق الpdf، مضيفة أنها بافتتاحها لهذه المكتبة حققت حلم طفولتها بامتلاكها لمكتبة تستطيع من خلالها إفادة الأشخاص الذين يقرأون، حيث كانت تطمح أن تفتتح مكتبة منذ صغرها ومنذ ترددها على المكتبات للقراءة فهي فتاة قارئة منذ الصغر، ونظرًا لعدم وجود مكتبات في البلدة القديمة بالخليل فكان حلمها أن يكون بها مكتبة، لتكون مكتبة عبير الثقافية هي أول مكتبة تقام في البلدة القديمة بالخليل.
وتنقسم المكتبة إلى ثلاثة أقسام حيث قسمها الأول لبيع وشراء الكتب وقسم آخر للقراءة داخل المكتبة وقسم آخر للأنشطة داخل المكتبة للأطفال، حيث تقام الأنشطة ضمن مكتبة الأطفال بالشراكة مع شبكة المكتبات بالضفة الغربية عن طريق مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، فيقومون بتنفيذ ثلاثة أنشطة من قراءة لقصة ومناقشة لكتاب ومن ثم تنفيذ نشاط على غِرار الكتاب أو القصة التي تم قراءتها، وذلك إما بالرسم أو تصنيع بالورق وفق ما تقوله عسيلة .
وفي زوايا المكتبة المليئة بالألوان، تتعالى ضحكات الأطفال، ويعبّرون عن حبهم لهذا المكان بطريقتهم الخاصة. تقول الطفلة رفيف الحرباوي:“أنا اتي على المكتبة من زمان. بنقعدهون،والمِس عبير بتقرأ لنا قصص، وإحنا يا إما بنرسم يا إما بنمثّل. هي بتقرأ القصة ،وإحنابنجسدهاعل ىأرض الواقع ،مثل قصة مياو مياو. وتعلمت كيف أرسم ،وتعلمت كتير أشياء حلوة.”
أما مريم المحتسب، 10 سنوات، فتقول بابتسامة مليئة بالفخر:“بحب أجي على المكتبة وعلى المِس عبير. تعلمت منها أشياء كتير،وهلّق صرت أعمل أشياءحلوة كتير بالبيت،وغرفتي صارت أجمل. لو ما في نشاطات المس عبير،كنت هلأ ما بعرف أعمل أشياءجميلة.”
عبير لم تتعامل مع الأطفال كمجرد مستفيدين من خدمات، بل كأمل للمستقبل. تسعى لتوفير بيئة صحية، تُنمّي فيهم حب المعرفة والخيال والإبداع، وتمنحهم مساحة ليكونوا أطفالًا… ببساطة.
وتتنوع الكتب الموجودة في مكتبة عبير حيث هناك كتب أدبية وأخرى قانونية وأخرى شريعة إضافة إلى وجود كتب باللغة الإنجليزية، وأيضًا هناك كتب شعر، ولم تنسى عسيلة الأطفال من الكتب فمكتبتها تحتوي على العديد من الكتب الهادفة والتي تتحدث عن الحياة القديمة التي عاشها الآباء والأجداد، وكتب تتناول القِيَم وغيرها من الكتب التوعوية المتنوعة المختصة بالأطفال.
في زمن تتراكم فيه التحديات على سكان البلدة القديمة، تأتي مبادرة عبير العسيلة كرسالة نور. من رحم الصعوبات، وداخل أزقة المدينة العتيقة، وُلدت مكتبة… ومن بين رفوفها تولد أحلام جديدة.
وتختتم عبير حديثها مع شبكة PNN بتوجيه دعوة للمواطنين واطفالهم لزيارة البلدة القديمة والتعرف عليها وعلى أماكنها المتنوعة وأن يزوروا المكتبة ويقوموا بقراءة الكتب بها، وداعية إلى العودة للقراءة فالقراءة هي غذاء للعقول.
تم انتاج هذه القصة ضمن برنامج قريب الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية CFI بالشراكة وتمويل الوكالة الفرنسية للتعاون الدولي AFD.