لماذا وإلى أين ؟

عزاء للبشرية في موت ”الإنسانية”

د. أوس رمّال*

عزائي العميق اليوم للبشرية، لا على ضحايا القتل الجماعي، ولا على أشلاء الأطفال تحت الأنقاض، ولا على الجوعى العطشى الذين يلاحقهم الموت بكلّ الأشكال؛ بل عزائي على “الإنسانية” نفسها وقد ماتت، وعلى القيم التي خدعونا بها دهرا طويلا، وصدّقها المغرَّرون من أمثالنا حين حسبوا أنها كونية تسري على جميع البشر؛ فإذا بها سرابٌ يصنعه الأقوياء لضمان الهيمنة والتسلّط، ويتلاشى متى مسّت المأساة شعوبا ضعيفة لا مكان لها في ميزان المصالح الغربية.

أين هم فلاسفة “الحرية” ومنظّرو “العدالة”؟ أين المتشدّقون بـ”حقوق الإنسان والحيوان”؟ خنسوا، سكتوا، غابوا أو غُيّبوا؛ كأنهم يعتقدون أن الإنسان في غزّة ليس إنسانا، وأن الحيوان فيها ليس حيوانا، بل كأن الموت جوعا وتحت الركام لا يعدو كونه “قَدَرًا” لا يستحق استنكارا، لا “قتلا” مقصودا بسبق إصرار وتخطيط.

لقد وجد الصهاينة في التّجويع سلاحا لا يكلّفهم سوى الانتظار، سلاحا أكثر فتكا من الصواريخ، وأقلّ إحراجا أمام كاميرات العالم، فهو “سلامٌ قاتل” لا يحتاج إلى قنابل، بل يكفيه معابر مغلقة وشحنات غذائية محتجزة؛ فيموت الأطفال بصمت، ويُقتل الضعفاء دون أن يُسمع دويّ السلاح. ومن السخرية أن يصوّروا هذا الجرم للعالم على أنه “موت طبيعي”، وليس “قتلًا” ممنهجًا يمارسه جيش محتلّ يؤمن بأن استهداف الأجسام الهشّة للأطفال سياسة فعّالة في الحرب.

وقد يربح هذا المحتلّ تكاليف السلاح بفضل هذا “الاقتصاد الدموي”، لكنه يخسر سمعته التي حاول ترميمها طوال عقود، عبر سرديات المظلومية التي بنى بها مجده الكاذب، فبات اليوم عاريا من كلّ غطاء، إلا غطاء الغطرسة والكذب. لم يعد ضحية كما أوهم العالم؛ بل أصبح جلاّدا لم يكتفِ بالقتل؛ بل استأصل كلّ ما هو إنساني في محيطه.

AID L3ARCH

وما يزيد الوجع عمقًا هو خذلان الدول العربية والإسلامية، خاصّة تلك التي تحيط فلسطين من كلّ جهة، وقد أدمنت دفن الرؤوس في التراب، حتى لا ترى الحقيقة الساطعة: أن هذه الإبادة لن تستثني أحدا، مهما تملّقوا العدو وتذللوا له. هذا الكيان المتألّه يعلم كيف يذلّ كرامتهم، ويشتري ولاءاتهم، ويحوّل جيوشهم إلى دروع تقيه غضب شعوبهم.

لكنّ التاريخ لا يُزوّر إلى الأبد، فكما أن لليل نهاية، فإن للظلم نهاية أيضا. قد تُشوَّه “حقائق” التاريخ، لكن “سُنن” التاريخ لا تُحرّف. فمهما طال ليل الاحتلال، سيطلع فجر المقاومة، ومهما عظُم جبروت الطغاة، فلن يصمد أمام صبر المستضعفين.

ولمن يطبّع، راجيا الأمن من الماكرين، نقول: إنّكم توهّمتم، ويوم تنقلب الطاولة، ستكتوون بالنار نفسها. أنتم تصافحون القتلة، وتبصمون على جرائمهم، وتشوّهون وجه الأمة بوصمة لا تزول، فتبًّا لأي يدٍ تمتدّ لمصافحة من قتل الأطفال ودمّر المدارس والمساجد وحرّق الحجر والبشر، ولا تزال يداه تقطران من دم الأبرياء.

*رئيس حركة التوحيد والاصلاح

*إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

3 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
مريمرين
المعلق(ة)
29 يوليو 2025 15:25

خَسِئَ المتبجحون بالقيم الغربية و خسئ المطبعون مع الكيان الصهيوني و المنبطحون للإملاءات الأمريكية، و خسئ من “كلهم إسرائيليون”

احمد
المعلق(ة)
29 يوليو 2025 13:40

بعد سقوط جدار برلين وانتهاء صراع الكتلتين استبشر العالم خيرا من بروز فجر جديد يبشر بعالم اكتر عدلا وحرية وبفضاء يتسع للجميع وينصف الغلابة من الشعوب التي خرجت ممزقة الارض ومنهكة من الاستعمار، لكن سرعان ما بدأ يطل علينا شبح رهيب من القوى نفسها التي كانت تبرر حروبها بالوقوف ضد الانظمة الشمولية والمتسلطة التي لا تحترم الديمقراطية وحقوق الانسان، وصدق الجميع بل انخرطت الاغلبية في هذا الوهم الدعائي ليجد الظعفاء انفسهم وجها لوجه امام نفس الآلية التي اذلتهم وارهبتهم، وقسمت أوطانهم قبل الحرب العالمية التانية، تدوس على رقابهم باسم قوانين كرست الوضع الاستعماري، وانكرت عليهم حقوقهم التاريخية والترابية، وفرضت عليهم الصمت تارة باسم محاربة الارهاب، وتارة بآسم إلتوازنات الجيوستراتجية، والتي ليست سوى توازنات الاقوياء ضد الظعفاء كما كانت دائما وابدا، فهل يستيقظ من ضل ينام في العسل.

يوسف ايوبي
المعلق(ة)
29 يوليو 2025 10:15

مجرد تساؤل.. اولا لا أحد يجادل في شرعية المقاومة وتنوع اشكاله..
لكن هؤلاء القادة الحمساويين القابعين في قطر وتركيا ولبنان وايران …والذين فشلوا بكل المقاييس في الدفاع عن الغزاويين بل وعرضوهم لابشع إبادة انسانية معاصرة من اجل كرسي تافه ولم يراجعوا أنفسهم او يحكموا ظمائرهم وينحنوا للعاصفة من اجل انقاد ما تبقى من الأطفال الأبرياء …ويسلموا كارية غزة إلى أي المنظمة او اي فصيل .

اليابان وألمانيا رفعتا الراية في الحرب العالمية ..وهاهما يجنون اليوم ثمار الأطفال الدين حافظوا على حياتهم …
ماهذا البؤس السياسي والاخلاقي والإنساني..

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

3
0
أضف تعليقكx
()
x