وترجع الفكرة من حيث الاستراتيجية الإعلامية إلى الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ومختصرها: «إن رددت كذبة بالعدد الكافي وبالطريقة المناسبة فإنها ستضحى عند السامعين حقيقة»، هكذا كان غوبلز يردد عشرات المرات ادعاءات دون أن يهتم إلى مدى تطابقها مع الواقع، في الخطابات، والنشرات المكتوبة، والملصقات الدعائية فكانت كثافتها قد جعلتها تعمل بكفاءة عالية. كذلك تم إغراق المتابعين بعدد مهول من أسماء المنصات، كأنها لا ترتبط ببعضها، ثم إن كل منصة تستضيف عددًا من الضيوف، لا أحدَ سيطالبهم بإبراز شهاداتهم فيما يتكلمون فيه، بل يتم التعريف بهم عبر ما تذيعه عنهم القناة، فأحد الضيوف مهندس لا يحمل غيرها من الشهادات، لكن التعريف به في أحد لقاءاته في بودكاست بأنه متخصص في الأمن القومي الإستراتيجي! وآخر يعرف بأنه الأستاذ المؤرخ رغم أنه لا يحمل أي شهادة في التَّاريخ، وآخر خبير في الجيوسياسة رغم أنه خريج كلية زراعة وهكذا.
عمل هؤلاء الضيوف سويًّا لمدة طويلة عند البحث في تاريخهم، سواء في إطلاق مجلات تنشر دعايتهم، أو تشكيل أحزاب بمسميات مختلفة ترجع كلها إلى هيكلية الإخوان الفكرية، لكن ما يقدمه الإنترنت اليوم من تسارع الصورة المرئية والكلمة المسموعة، يصعب المهمة على المتلقي العادي في معرفة من الذي ظهر له في مقطع (ريلز) أو من هذا الذي أعجبته فكرته في مقطع لم يتجاوز دقيقة واحدة. لقد ركز هؤلاء على عمل لقاءات لا تكاد تنتهي في مدة وجيزة، فما أن يخرج أحدهم من بودكاست حتى يدخل بآخر، ثم تقطع أفكاره إلى مشاهد قصيرة وتوزع على مختلف المنصات: إكس، فيسبوك، إنستغرام، تلغرام، وهي تمثل طُعمًا صغيرًا مرتبطًا بشبكة معقدة من الأفكار المشتركة مع غيره من الضُّيوف.
فمتى لم يعجب المتابع بواحد لمَ لا يختارَ غيره؟ ويحسب بهذا أنَّه غيَّر الفكرة وإنما يغيِّر غلافها، إذ ينوِّعون الضيوف ما بين ملتحٍ إلى متوسِّط اللحية إلى حليق، ومن مثقَّف يستعرض مصطلحات حديثة مثل (الدولة القومية الحديثة)، إلى متكلم بالدين بلا أدنى مؤهلات شرعية، ما بين فصحى وعامية، يغرقون المتابع بحشد للدعاية الموجهة، وما القصة التي قد ينجذب إليها أحد المستمعين إلا إعلان عن فكرة سيبثها الضيف في آخر لقائه، أو منتصفه، ما بين تعليق له على أحداث مثل اتهامه الدول العربية بحصار غزة، أو تخوينه لها لظرف لا يعرف المتابع أن ما سمعه إنما هو تحريف متعمد للوقائع، وتأويل لها على هوى الضيف ليرمي بفكرته القائلة بوجوب تدمير وإسقاط الدول العربية.
تزايد البث الدعائي في برنامج بودكاست ضد دولنا ومجتمعاتنا العربية، يبعث على الحاجة إلى تتبع المادة المرئية والمسموعة التي تستهدف قطاع الشباب والشابات أمام إغراقهم بمادة متواطئة في الفكرة، مختلفة الأسلوب والوجوه، ويضحى من الصعب على فرد القيام بتغطيتها جميعًا، وإن كان ذلك واجبَ الوقت. وبحق توجد جهود مشكورة لعديد من الحريصين لتفنيد الادعاءات المتكررة من هؤلاء، لكن تلك المنصات ليست وليدة لحظة، ولا هي ابنة جهد فردي، بل عمل إعلامي منظم الغرض منه التوجيه الأيديولوجي لأهداف سياسية، فلا بد من عمل منظم مقابل، يكشف عما تضمنته تلك الدعاية الموجهة، ويفضح التواطؤ ما بين صناعها، ويقدم مادة تفنيدية لما تضمنته تلك الدعاية الموجهة ضد دولنا وأوطاننا، وجامعاتنا وشبابنا.
والحقيقة التاريخية تنص على أنه ما من مصيبة أو كارثة إلا سبقتها بوادر وإشارات، كان يمكن تجنُّب نتائج استفحالها في النهايات، فالعملُ على حشد الجهود لتتبع تلك المنصات، وتتبع ما فيها من أهم ما تفرضه الأولوية الحالية على كل حريص على دينه، ووطنه، والشباب الذي قد يفتقد الموجه والمفند لأغاليط ما يسمعه.