وبعدما كانت العقوم والناتج من مياه السيول هما المصدر الأساسي والأهم الذي تعتمده المزارع في الري، بات المزارعون ينتظرون اليوم مياه الأمطار، ويعتمدون على الآبار التي تحتاج إلى تكلفة كبيرة لإنشاء ألواح الطاقة الشمسية، وتمديد خراطيم السقاية وغيرها، وهي تكلفة لم يتحملها بعضهم، فتوقف عن الزراعة وهجر أرضه بعد الخسائر التي تلقاها، بينما تذهب غالبية مياه السيول إلى البحر بلا أي فائدة منها.
معوقات ومعاناة
يوضح الخبير في الزراعة المطرية وإدارة السيول حسن محمد حبيبي أن المزارعين الذين ما زالوا يحافظون على مزارعهم يواجهون كثيرا من المعوقات، ويتكبدون معاناة شديدة، وقال: «يمكن أن نذكر من معاناة المزارعين، لمنعهم من إقامة العقوم، ما يلي:
1- عدم إقامة العقوم يعني عدم وجود زراعة في منطقة جازان.
2- نضوب مياه الآبار إلا القريبة من مجاري الأودية.
3- تراكم الديون، وعدم القدرة على سدادها نتيجة كلفة شراء الأعلاف، ودفع مستحقات العمالة الدائمة، وتكاليف صيانة الأدوات الزراعية التالفة دون وجود إنتاج، وانتشار أشجار البرسوبس في الأراضي الزراعية... إلخ».
وبالنسبة للعقوم وأهميتها، بيّن: «مع دخول فصل الخريف، يبدأ المزارع في التفكير بكيفية ري أراضيه الزراعية، ويشترك مزارعين عدة في إقامة عقوم تروي عشرات الهكتارات من الحقول.
والعَقْم هو سدة ترابية تُنشئ في المجرى الطبيعي للأودية، لتحويل جزء أو كامل مياه المجرى الرئيس إلى مجرى فرعي، وتوجيه هذه المياه إلى الأراضي الزراعية التي تحتاج إلى الري».
وأشار إلى أن المعنيين هم المزارعون الذين يتعاملون مع الأمطار والسيول باحترافية، مستفيدين من تخطيط هندسي متوارث على الطبيعة وضعه الأجداد قبل ظهور المدارس والجامعات وكليات الهندسة، فهؤلاء الرجال تعلموا من الحياة مباشرة، وأتقنوا فن إدارة السيول بالممارسة وملاحظة انحدار المياه عبر السنوات دون دراسة أكاديمية، معتمدين على خصائص طبيعة الأرض في جازان، حيث يوجد ارتفاع في مستوى الأرض بنحو 35 سم لكل 100 متر، مما يجعل مياه الأمطار تنحدر بقوة نحو الغرب لتستقر في البحر.
ضوابط اجتماعية
يؤكد حبيبي أنه لـ«الاستفادة من هذه المياه، قسّم المزارعون الأراضي الزراعية إلى مجموعات تبدأ بالجزء الأعلى، حيث تُنشئ الحاملة (مجرى بسيط)، وفي نهايتها سدة لتحويل المياه القادمة من العقم إلى الأراضي المرتفعة، ثم الأقل ارتفاعًا، حتى يتم التأكد من ارتواء جميع الأراضي الواقعة في مسار تلك السدة».
وحول كيفية إنشاء العقوم بالإغلاق الجزئي للمجرى، أفاد: «أحيانًا لا يستوجب إغلاق المجرى بالكامل، فيُنشئ عقم موازٍ للمجرى ليأخذ جزءًا من الماء، ويترك الباقي يسير في مساره الطبيعي. كما أن هناك أذرعا جانبية، فلكل عقم ذراع يمنع تسرب المياه إلى مناطق منخفضة غير مرغوبة، وهناك مجاري داخلية، فداخل كل عقم مجاري تتخللها سدات فرعية، تُنشئ حسب منسوب التربة».
وأشار حبيبي إلى أنه «فيما يتعلق بتوزيع المياه، يعتمد المزارعون على توجيه المنسوب من الشمال إلى الجنوب أو العكس، لتوسيع مساحة الأراضي المروية من السدة نفسه، ويتجنبون التوسع غربًا بسبب الانحدار الكبير. والأراضي الأعلى منسوبًا تُقدَّم في الري قبل غيرها، والمزارع الخبير لا يطلب الماء إلا من المواقع التي ثبت أنها لا تسبب خسائر أو أضرار»، مبينا أن هناك ضوابط اجتماعية، فإذا قام مزارع بخطوة غير مدروسة تسببت في عطش أراضٍ أخرى، فإنه يُحاسَب، وأحيانًا يتحمل غلة تلك الأراضي. وفي حال حصول خطأ في توزيع المياه، يُفضل فتح العقم لتصحيح المسار.
وأضاف: «ميدانيا، قد يصل ارتفاع الماء في حوض العقم إلى 4 أمتار، بينما في الأراضي المروية من أول سدة لا يتجاوز ارتفاع الماء 50 – 100 سم. وفي منطقة الحَز الجبلية، تُقام العقوم تقليديًا بقطع أغصان الأشجار ورمي الحجارة فوقها، وتكرار العملية حتى الوصول للارتفاع المناسب، وقد يوجد في المجرى الداخلي بين الأراضي الزراعية عدد من السدات، يختلف عددها حسب بُعد الأراضي عن العقم الرئيس ومنسوبها».
حلول مناسبة للعقوم
أما فيما يتعلق بالحلول المناسبة في منطقة جازان لإقامة العقوم والاستفادة منها، فقال الخبير في الزراعة المطرية وإدارة السيول: «هناك سدود على بعض الأودية يتم التحكم فيها حسب فتحات البوابات وأوقات الأمطار. أما الأودية التي لا توجد عليها سدود، فيجب السماح بإقامة العقوم بمناسيب تناسب طبيعة الأراضي الزراعية التي تُروى منها بالتعاون مع أهل الخبرة، مع وضع خطة واضحة لإقامة كل عقم، وتحديد ما إذا كان يغلق كامل عرض المجرى أم لا».
وأكد أن مزارعي جازان يعتمدون على السيول أولا، وبعضهم يعتمد على الآبار التي تعتمد بدورها على جريان السيول، وكذلك بعض الأراضي تعتمد على الأمطار، والأراضي الرملية (الخبوت) تروى بالأمطار فقط، والأراضي المرتفعة التي لا يصلها السيل يتم حفر آبار ارتوازية فيها، بينما الأراضي الطينية الهابطة تكونت عبر السنين من ترسبات السيول القادمة من أعالي الجبال.
تكلفة إنشاء مزرعة
بيّن حبيبي أن إنشاء مزرعة لزراعة الحبوب على بئر ارتوازية يعد مشروعا خاسرا مهما كان حجم الإنتاج، وذلك بالنظر إلى تكاليف تجهيز البئر، من تصريح الحفر وحتى استخراج الماء، بينما المحصول النهائي قد يكون محدودًا.
وأما بالنسبة للفواكه الاستوائية، فإنها تحتاج خبرة وعناية، خاصة في السنوات الأولى، وأغلب المزارعين لا يصبرون خمس سنوات أو أكثر دون محصول.
وأوضح أن مزرعة للذرة الرفيعة على سبيل المثال تكلف التمديدات لزراعة الهكتار الواحد (10000 م2) فيها 3000 ريال. كما تُضاف إليها كلفة وسيلة إخراج الماء، والعمالة المشرفة على تركيب الشبكة ومتابعة الري على مدى 3 أشهر، ثم كلفة الحصاد.
وأضاف: «كان توجد لدى الأولين مسودات لكل عقم، لتوزيع تكاليف إنشائه على المزارعين المستفيدين منه، وهذا ما يؤكد أن الزراعة مهنة متعبة، وتتطلب جهدا كبيرا، تاف إليه المعاناة من نقص الأيدي العاملة، وشح المياه، ومتاعب موسم الحصاد، لهذا يتوقف عدد من المزارعين عن أعمالهم في استصلاح أراضيهم، لأن العائد منها لا يغطي التكلفة والمصروفات».
حلم جريان السيول
من جهته، يقول المزارع عيسى محمد الدربي: «محافظة الدرب تقع في الجزء الشمالي لمنطقة جازان، وتحدها شرقا منطقة عسير، وتحديدا مركز مربه، وتبعد عن مدينة أبها قرابة الـ70 كلم، وتنشط الأمطار عليها في فصل الخريف، وطالما اشتغل أهلها بزراعة حبوب الذرة بنوعيها الأحمر والأبيض، وكذلك زراعة الدخن والسمسم».
وأضاف: «يغذي المحافظة أحد أكبر الأودية في المنطقة، وهو وادي عتود، ومن أهم روافده وادي مربه ووادي ضلع، ويشكل الجزء الزراعي من محافظة الدرب ما نسبته 35% منها، وتبدأ بمحاذاة وادي عتود ابتداء من الكدرة باتجاه الغرب وبمحاذاة الوادي، مرورا بقرية القومة وقرار ووصولا إلى المثلث، وتستمر الأراضي الزراعية على جانبي الطريق العام وخلف المحلات التجارية وصولا إلى بلاد أهل القضب، ناهيك عن الأراضي الزراعية التي تقع جنوب وغرب الدرب القديم، وبمحاذاة طريق المسامير، فهذه الأراضي الزراعية تعود إلى قرون من الزمن، وكانت مصدرا من مصادر العيش لسكان هذه المحافظة وغذاء لمواشيهم».
وتابع عيسى: «مع إنشاء سد وادي عتود وسد وادي مربه قلّ الري الزراعي لهذه المزارع التي تعتمد في ريها على مياه السيول الموسمية، وأصبح جريان الوادي بالسيل حلما لأصحاب المزارع في ظل وجود السدود، ولم يبق سوى وادي ضلع كمصدر وحيد لري المزارع. ولكن حتى مع جريانه، فرض منع إقامة العقوم التي كان أصحاب المزارع يقيمونها منذ قرون، ويستفيدون منها في الري بأسلوب منظم يمنع الإضرار بالممتلكات».
وأكمل: «على سبيل المثال، الأراضي الزراعية الواقعة جنوب الشارع العام، هناك عبارات تنقل مياه السيل من الجزء الجنوبي للشارع العام إلى الجزء الشمالي منه باتجاه وادي الحطب، ليكمل السيل مساره بالاتجاه نفسه، ناهيك عن إنشاء العقم يكون بمقدار يمنع زيادة منسوب المياه فيه، ليتمكن المزارع من ري أرضه بطريقه سلسة. وفي حال فيضان الوادي بسيول جارفة، فإن هذا العقم لا يحتمل مقدار المياه، وينفجر من تلقاء نفسه في الوادي، وهذا ما يحصل منذ مئات السنين».
قطع الري
أشار الدربي إلى أن ما يحدث لهذه المزارع من قطع الري عنها يسبب الضرر لأصحابها وأرباب الماشية، ويترك أثرا بيئيا وماديا سلبيا إذا لم يجدوا من اللجان المسؤولة عن فتح العقوم ومنع إقامتها الحلول المناسبة.
وقال: «في بعض المواقع، وعلى سبيل المثال محافظة بيش، يتم فتح السدود والري المنظم، وتشكل لجان مسؤولة، تضم أصحاب الخبرة، للوقوف على العقوم وتحديد مسار المياه، ونسبة استفادة العقم المناسبة من منسوب المياه، وتتم الاستفادة من موسم الأمطار وجريان الأودية بدلا من أن تهدر وتترك لتنتهي في البحر الأحمر».