دائمًا ما تقدم الجماهير في أطروحات المثقفين والكُتاب باعتبارها رمزًا للتبعية المطلقة والعمياء والجهل المركب، ودائمًا ما يطلق على الجموع وصفًا مسيئًا وهو وصف «القطيع» مقابل النخبة المثقفة أو الفلاسفة المتنورين الذين يحتكرون الوعي وينسب لهم حصرًا كل منجزات العصور السابقة واللاحقة. ومن هنا نريد رد الاعتبار للجموع المظلومة ونعيد النظر في الكيفية التي ينظر بها إلى الجموع (الجماهير) بعيدا عن التنميط والتجريح.

الحقيقة أن الجموع ليست كيانا بلا عقل بل تملك عقلا جمعيًا متفوقًا يمكن أن نرد له كل منجزات الحضارات الإنسانية عبر كل العصور. فالتفكير والإبداع ليسا فعلين مقتصرين على أفراد نوابغ يمكن عدهم على أصابع اليد. فالمعرفة في حقيقة الأمر فعل تشاركي. وفي كتاب (وهم المعرفة) للمختصين الأمريكيين في علم الإدراك: ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ، يقدمان فكرة فريدة من نوعها تقول بإن المعرفة ليست فعلا فرديًا على الإطلاق وأننا نحن البشر لا نقدر على الاكتفاء بعقولنا في فهم كل شيء يحيط بنا في حياتنا اليومية.

تكمن أهمية الكتاب في أنه ينسف فكرة نخبوية الأفكار التي تمجد العقل الفردي وتعزل التفكير عن سياقه الاجتماعي وتحصره في مجموعة من المتنورين النوابغ.


كتاب «وهم المعرفة» يدور حول فكرة محورية وهي أن ما نعتقد بأننا نعرفه في أذهاننا أقل بكثير مما نعتقد وأن كل المعرفة التي نستخدمها ونتصرف بها في حياتنا اليومية موزعة بين أفراد المجتمع، أي أن الإنسان لا يفكر باستقلالية في دائرة مغلقة لوحده بل يعتمد على عقول الآخرين دون أن يعي ذلك، فالجماهير ليست قاصرة بل تملك وعيا وذكاءً مشتركا ومعرفة يعود لها الفضل الأول في بناء الحضارة العلمية والتقنية الحديثة.

وحسب ما يطرحه الكتاب فكل ما نعرفه بداية من كيفية عمل المرحاض إلى النظرية النسبية هو نتاج تعاون فكري طويل ومعقد لا يستطيع أي فرد مهما بلغ من الذكاء أن يحتكره، وبالتالي فإن منجزات الحضارة يعود فضلها للعقل الجمعي للجماهير لا للعلماء النوابغ الذين يمكن حصرهم.

يقول الكاتبان: «لقد رأينا أن التفكير تطور لدعم الأفعال المعقدة. ويعالج العقل المعلومات كي يتمكن الأفراد من التصرف، وكي يستطيعوا تحويل البيئة على هواهم. كما رأينا أيضًا أن الفكر يستخدم البيئة لإنجاز عملياته. يقوم العالم بوظيفته باعتباره ذاكرة، وهو جزء من عملية التفكير. ولكن مفكرًا وحيدًا لا يمكنه أن يفعل الكثير. غالبًا ما نرى في الطبيعة سلوكًا معقدًا ينشأ من خلال التنسيق بين عدد من الأفراد. وعندما تتضافر أنظمة معرفية متعددة، يمكن أن يولد ذكاء جمعي يتجاوز ما يمكن لكل فرد القيام به».

يمكن ربط فكرة المعرفة الجمعية أو العقل الجمعي في كتاب «وهم المعرفة» بطريقة مثيرة للاهتمام بفكرة «الإجماع الفقهي» رغم اختلاف السياقات التاريخية، فالإجماع كما نعلم يعد مصدرًا مهمًا من مصادر التشريع يأتي بعد القرآن والسنة، وقوة الإجماع تقوم على أساس أن الرأي الجماعي أرجح من الرأي الفردي لأنه يفترض أن الحكمة موزعة بين أفراد الأمة وأن اجتماعهم على خطأ يكاد يكون مستحيلًا، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» بمعنى أن المعرفة الحقيقية لا توجد خارج الإطار الجمعي وأن الرأي الفردي محدود ما لم يربط بمعرفة الآخرين.

الإجماع الفقهي هو في جوهره نوع مبكر من الإيمان بالمعرفة الموزعة بين أفراد المجتمع، وهي نفسها الفكرة المركزية لكتاب «وهم المعرفة»، فالحديث النبوي يؤسس لفكرة أن الأمة في مجموعها لا يمكن أن تتفق على باطل والاجتماع مؤشر على الصواب، وبالتالي فإن الجماهير هنا ليست كتلة عاطفية أو غوغائية بل تملك وعيًا جماعيًا أكثر موثوقية من الوعي الفردي.