إرث شي جينبينغ المكلف
مشاركة
تجارب شي تشونغ شون القاسية بين الولاء والثورة شكلت وعي ابنه شي جينبينغ، الذي ورث عبء الصراع بين الإخلاص للحزب والخوف من تكرار مآسي الماضي. يسعى شي الابن إلى ترسيخ شرعية الحزب عبر الصرامة والتعبئة الأيديولوجية، في مواجهة جيل شاب أقل استعدادًا للتضحية.

ووالد الزعيم الصيني الحالي شي جينبينغ، واحدة من أبرز الوجهات السياحية في وسط شرق ولاية آيوا: مستوطنات أمانا، وهو موقع تراثي ألماني أسس على مبادئ الحياة الجماعية التعاونية، والشهير اليوم بصناعة البيرة والحرف اليدوية. وقد تركت تلك الزيارة أثراً عميقاً في نفسه. في سن الـ67، كان شي يقود وفداً من حكام الأقاليم إلى الولايات المتحدة. كانت لحظة تاريخية في انفتاح الصين على الأعمال والاستثمار الغربيين. وبصفته قائداً لمقاطعة غوانغدونغ الجنوبية، كان شي في طليعة ذلك الانفتاح. فقد شهدت عاصمة الإقليم، غوانزو، لتوها افتتاح أول قنصلية أميركية خارج بكين. كما كان شي يطلق حينها مناطق اقتصادية خاصة تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، التي ستصبح رمزاً لعلاقة الصين الجديدة مع العالم الخارجي.

في ذلك الوقت، بعد بضعة أعوام من وفاة ماو تسي تونغ، كان شي ورفاقه قلقين من أن ما بنوه بكل تضحياتهم قد لا يصمد. ومن موقعه كحاكم لمقاطعة غوانغدونغ، لم تكن المؤشرات مبشرة. فقد كان عشرات الآلاف من الناس يفرون من فقر البر الرئيس الشيوعي إلى هونغ كونغ الرأسمالية. كان من الممكن أن تسهم الروابط الاقتصادية الجديدة مع العالم الخارجي في كبح هذا النزوح وخلق الازدهار، لكن الخوف من تسلل الأيديولوجيا الغربية كان ملموساً بصورة خاصة في غوانغدونغ بسبب قربها من المستعمرة البريطانية. وكان الشباب في غوانزو يخرجون إلى الشوارع مطالبين الحزب بالإسراع في اتباع النهج الجديد القائم على "الإصلاح والانفتاح". وعلى رغم أن الحقبة الفوضوية لماو كانت قد نبهت الحزب إلى أخطار حكم الفرد والتوترات التي ترافق انتقال السلطة، فإن طاغية جديداً في بكين، دنغ شياو بينغ، كان يستخدم أساليب ميكافيلية لهزيمة خليفة ماو الأول، هوا غوفنغ، الذي كان يميل إلى الحكم بالتوافق.

وفي رسمه مسار الحزب والبلاد إلى الأمام، لا شك أن شي جينبينغ يستلهم نضالات والده في مواجهة الاضطرابات التي عصفت بالصين في القرن الـ20. إذ تظهر المراجعة الدقيقة لحياة شي تشونغ شون، التحديات الكبرى التي واجهت سياسات الحزب منذ البداية، خصوصاً من ناحية المعضلات المتعلقة بدور الأيديولوجيا في الحياة السياسية الصينية وخطط الحزب لانتقال السلطة. وهي إشكالات يمكن إدارتها، لا مشكلات قابلة للحل، وتشكل سياقاً أساساً لفهم ما يسعى إليه شي جينبينغ اليوم، وما إذا كان سينجح في تحقيقه مستقبلاً.

تحمل شي الأب معاناة استثنائية في سبيل القضية، على يد كل من خصومه القوميين، وكذلك الشيوعيون رفاقه. وتظهر المحن التي واجهها عن خطرين متناقضين: أن تؤخذ الأيديولوجيا على محمل الجد أكثر مما ينبغي، أو ألا تؤخذ بجدية كافية. فبعد إطلاق سراحه من سجن للقوميين وهو في الـ15 من عمره، لم يجدد حماسه للثورة عبر قراءة كارل ماركس، بل كما روى لاحقاً لابنه، استلهم عزيمته من رواية بعنوان "الرحالة الشاب" للكاتب جيانغ غوانغتسي، التي تدور حول بطل يتعرض لكوارث متتالية ويستنتج: "كلما زاد الألم الذي جلبه لي هذا المجتمع الشرير، اشتدت عزيمة مقاومتي".

لكن الأيديولوجيا، التي حركته ومنحته أدوات لتفسير ولائه للحزب، كادت أيضاً تودي بحياته. إذ إن الحزب، الذي اضطهده مراراً، كان يعتبر أي خلاف في الرأي دليلاً على انحراف أيديولوجي. ولهذا، على رغم أن رواية كانت وراء تمسكه بالثورة عام 1928، فإن رواية أخرى، عن ثوري كبير يدعى يو تشي دان، تسببت في إطاحته عام 1962. فقد رأى ماو أن سماحه لعضوة في الحزب ليست من كبار القادة، بكتابة قصة متخيلة عن أحد الثوريين البارزين من شمال غربي البلاد يعد دليلاً على "صراع طبقي" [في فكر ماو، حتى داخل الحزب، هناك بقايا من الطبقات القديمة تحاول التسلل مجدداً. فكل رأي مختلف، أو عمل فني غير "نقي أيديولوجياً"، كان يفسر كعلامة على أن الصراع الطبقي ما زال قائماً]. فطرد شي إلى الظل السياسي لمدة 16 عاماً.

شكلت هذه السقطة تمهيداً لإحدى أعظم مآسي التاريخ الصيني: الثورة الثقافية [حملة أطلقها ماو تسي تونغ بين عامي 1966 و1976 لتطهير الحزب والمجتمع من "الانحرافات الطبقية"، وانتهت بفوضى سياسية واضطهاد واسع النطاق]. ففي تلك الأعوام المضطربة من الستينيات والسبعينيات، نفت السلطات شي من العاصمة، وأخضعته للحبس الانفرادي ولسوء المعاملة الجسدية. وبعد وفاة ماو عام 1976، أدرك القادة أن الثورة الثقافية كانت فشلاً ذريعاً لدرجة أن الحزب لا بد أن يغير مساره بعدها. وعندما عاد شي إلى العمل في بكين عام 1981، واجه سؤالاً جديداً: كيف يمكن الحفاظ على الإيمان والمثل العليا في وقت لم يعد أحد قادراً على تفسير معنى الشيوعية، وهو واقع اعترف به شي نفسه.

أدرك شي أن تحقيق نمو اقتصادي أكبر سيمنح الحزب الشرعية المطلوبة التي يحتاج إليها بشدة. لكنه كان في الوقت نفسه يخشى ما قد يحدث إذا أدى النموذج الاقتصادي الجديد إلى فقدان الناس إيمانهم بالتزام الحزب الأيديولوجي. كان قلقاً في شأن التغييرات التي قد تطرأ على الصين مع وصول الاستثمارات الغربية، وإدخال آليات السوق، واستخدام الحوافز المادية لتشجيع العمل الجاد. أراد شي أن يفسح المجال لأصوات جديدة يمكنها تبرير التوجه الاقتصادي الجديد للحزب، أو حتى تقديم أفكار حول كيفية تنفيذ إصلاحات سياسية محدودة، لكنه كان يخشى الفوضى، وأراد من المنتقدين الأكثر صخباً أن يتوقفوا عن إثارة المتاعب له. وكان هناك دائماً خطر أن يربط اسمه بمطالب التغيير الجذرية، مما قد يثير غضب رؤسائه. لقد كان الأمر وصفة للارتباك والشلل. وعلى مدى الثمانينيات، كان الحزب يشن حملات قمع تثير المخاوف من تكرار الثورة الثقافية، ثم يتراجع عنها بسرعة عندما تهدد تلك الحملات النمو الاقتصادي.

وفي نهاية المطاف، كانت هناك عواقب طاولت النخبة الحزبية نفسها. ففي عام 1987، وبعد احتجاجات طلابية، أقال دنغ شياو بينغ الأمين العام هو ياوبانغ من القيادة. واتهم الحزب ياوبانغ بالسعي إلى تبني "الليبرالية البورجوازية". ووفقاً لما قاله عضو المكتب السياسي يانغ شانغكون، فقد قيل إن شي، المقرب من ياوبانغ، "ذهب أبعد من ياوبانغ نفسه". أثارت تلك التهم غضب شي. فقد كان يعلم أن ياوبانغ لم يكن يوماً معارضاً لدنغ، لكن المشكلة الحقيقية كانت أن محاولة التوفيق بين الإصلاح والانفتاح من جهة، والمبادئ المحافظة من جهة أخرى تبينت أنها مهمة شبه مستحيلة. وعندما باتت هذه التناقضات واضحة إلى حد يصعب تجاهله، وجه اللوم إلى ياوبانغ وشي معاً.

كان شي يدرك أن السياسة في أعلى هرم الحزب لم تكن مجرد تنفيذ لأوامر القائد الأعلى. فالمنفذون كانوا يكلفون بتحقيق أهداف متعددة في الوقت نفسه من دون توجيه واضح حول أيها أكثر أهمية أو كيف يمكن تحقيقها. وغالباً ما كانت الأوامر تتضمن تعليمات متناقضة يفصل بينها حرف "لكن": كأن يقال لهم "يجب أن تكون الحملة شاملة، لكن لا تفرطوا في التسرع أو الذهاب بعيداً". فإذا مالوا كثيراً نحو اليسار (أي نحو الراديكالية)، أو نحو اليمين (أي الحذر الشديد)، فقد يتهمون بالانحراف الأيديولوجي. أما الفشل، فربما يعني خسارة النفوذ لمصلحة شخص آخر.

وكان القادة الأعلى، من ماو إلى دنغ، يتصفون غالباً بالتحفظ، والغموض، وتقلب المزاج والشك. فإذا قدم أحد نوابهم تقارير مفصلة أكثر من اللازم، قد يشعر القائد بأنه غارق في التفاصيل ومقيد. أما قلة التواصل، فكانت تدفعهم إلى الشك في أن مرؤوسيهم يحاولون الاستئثار بالسلطة وإدارة البلاد بأنفسهم. وكانت الاجتماعات الخاصة والصريحة بين القادة ونوابهم نادرة للغاية، وحتى عندما تحدث، لم تكن تضمن التوصل إلى تفاهم مستقر. وإذا أخطأ أحدهم في التقدير، فإن رؤساءه كانوا يسحبون منه السلطة، أو ما هو أسوأ من ذلك.

كان الوضع شبه مستحيل على النواب أن يتعاملوا معه. شاهد شي (الأب) كيف كان ماو يمعن في إذلال تشو إنلاي. ففي إحدى المرات عام 1958، اعترف تشو، بعد جلسة نقد ذاتي مؤلمة [ممارسة سياسية يجبر فيها المسؤول أو العضو على الاعتراف بأخطائه أمام زملائه علناً، وغالباً بصورة مهينة، لإثبات الولاء للحزب وتصحيح مساره. كانت تستخدم أداة للضبط والسيطرة، لا للمراجعة الذاتية الصادقة] استغرقت ساعات، لشي بنبرة حزينة أن ماو انتقده من جديد. فرد عليه شي بأنه سيتحمل جزءاً من اللوم معه. وقد هزه أن قائداً متمرساً مثل تشو، الذي يعرف ماو أكثر من أي شخص آخر، يمكن أن يتعرض مع ذلك لانتكاسات قاسية.

كان شي يعتقد أن عبادة الشخصية التي رسخت حول ماو خلال الثورة الثقافية كانت كارثية. ولهذا أصيب بخيبة أمل حين بدأ دنغ، خلال الثمانينيات، يتحول بدوره إلى مستبد آخر. وقد اقترح شي على هو ياوبانغ أن يتحدث إلى دنغ أكثر، لضمان وجود تفاهم واضح بينهما، لكن ياوبانغ اعتقد أن دنغ يثق به ثقة تامة. وكان مخطئاً. فعندما قال دنغ إنه ينوي التقاعد عام 1986، ارتكب ياوبانغ خطأً قاتلاً، إذ أبدى موافقته على تلك الخطوة، وهو ما جعل دنغ يستنتج أن ياوبانغ يسعى إلى التخلص منه. وهكذا تمت إطاحة ياوبانغ. وبعد ذلك، أصبح واضحاً لشي أن الحزب لم يكن ميالاً إلى حل المشكلات المتأصلة في نظام قيادته، بقدر ما كان يميل إلى إعادة إنتاجها.

وكما فعل ماو ودنغ من قبله، استأثر شي جينبينغ بسلطات واسعة. ويبدو أن نموذجه في الحكم منطقي إلى حد ما في ضوء تجارب والده. فإذا كانت الغيرة والهواجس التي ترافق صراعات الخلافة تشكل خطراً، فلا غرابة في أن شي لم يعين خليفة له. فاختيار خليفة معلن قد يخلق مركزاً آخر للسلطة داخل الحزب، وشي لا يريد المخاطرة بعدم الاستقرار الذي قد ينجم عن اضطراره لاحقاً إلى إطاحة ذلك الشخص. وإذا كان وجود مسافة أو ضعف التواصل بين الزعيم ونوابه يؤدي إلى مشكلات، فيمكن فهم سبب اتخاذ شي جينبينغ قراراً بالتحكم الكامل بالسلطة بنفسه، وعدم ترك صلاحيات حقيقية لمساعديه، كما فعل عندما همش رئيس الوزراء آنذاك لي كه تشيانغ، وقلص من هامش تحركه في إدارة الشأن الاقتصادي.

حتى شي جينبينغ نفسه أقر بأن المعاناة التي عاشها في شبابه زرعت فيه الشكوك تجاه الدولة والحزب. بل كان مقتنعاً بأن محنته كانت أشد من تلك التي مر بها كثر خلال الثورة الثقافية، لأنه كان نجل قيادي تعرض للإقصاء السياسي في وقت مبكر مقارنة بمعظم كبار الثوريين. ومع ذلك تحدث لاحقاً بفخر كبير عن الصلابة التي غرستها فيه تلك التجارب المروعة، وأكد أن مثله العليا وقناعاته راسخة لا تتزعزع، تحديداً لأنه مر بفترة من الحيرة قبل أن يدرك أن طريق الحزب وحده هو الطريق الصحيح.

بدل من أن تبعده هذه التجارب عن الحزب، يبدو أنها دفعت شي جينبينغ إلى التمسك بالقضية التي عانى والده من أجلها كثيراً، والسعي إلى استعادة الكرامة والإرث لعائلة كثيراً ما أهينت. وانطلاقاً من هذا الشعور، سلك درب والده ودخل عالم السياسة. لكن، هل ستشعر الأجيال القادمة بالشعور نفسه تجاه الحزب كما شعر آباؤهم؟ شي مقتنع بأن خصوم الصين في الغرب يسعون إلى تحريض الشباب على المطالبة بتغيير سياسي جذري. ولمواجهة هذا الخطر، يأمل شي في إلهام الشباب الصيني بمهمة تقوم على إحياء النهضة الوطنية، والتضحية، و"تحمل المرارة" في سبيل المصلحة الكبرى.

مشاركة

Error category videos cards

قد يعجبك

تابعونا على تويتر انضم إلينا على الفيسبوك
أضف سلعة أو إعلاناً الى السوق