السيسي يعيد الاعتبار للمنطق ...
مشاركة
رغم واقعٍ لا يحفل إلا بالظواهر المحيرة، والتي لن نجانب الصواب إذا وصفناها بالعبثية في أغلب الأحيان، كارتباط وتشبث الحكام العرب بالوهم الأمريكي، فإنني ما زلت أتشبث بقناعة: أن العالم ليس عبثياً.. وبعيداً عن أي فكرةٍ «غائية متعالية» أو هدفٍ أسمى يمضي له التاريخ، أو حتى نهاية سعيدة بالمعنى الأمريكي الساذج، ما قد نختلف أو نتفق حولها، فإنني على الأقل لم أزل أذود عن ذلك الإيمان، أو الانحياز، من منطلق أن الزمن كفيلٌ بفضح الأسباب والأهداف المستترة، وتفسير ما استعصى على الفهم الآن.

لعل ما يرسخ هذا الشعور هو حالة السيولة التي يشهدها العالم ونعيش في خضمها، التي تعكس تكسر النظام العالمي القديم بتوازناته، وتشكل آخر بما يصاحب ذلك من ردات فعل عصبية وتصرفاتٍ مندفعة وانفلاتات عن الطوق والقيود القديمة؛ لكنني على يقين بأن ما يبدو غامضاً وضبابياً الآن، سيتضح في السنين المقبلة، ولعل قيمة التفكير والتحليل ودور مراكز الأبحاث والدراسات تكمن في محاولة قراءة تلك الصورة ومخر متاهاتها واستشراف المستقبل وتقديم نصائح لصانع القرار، هذا بالطبع في الدول التي تحسب حساباً للمستقبل، وتحرص على دورٍ لها يتخطى مجرد الحفاظ على النظام الحاكم. أعترف أيضاً بأن ضعفاً وشكاً يتسربان أحياناً إلى قلبي إزاء ما أراه من دمٍ غزيرٍ وعنفٍ منفلتين.

ونظامه أعادا إليّ ثقتي في المنطق والطمأنينة لليقين الذي ذكرت بأن لكل شيءٍ تفسير ونسق داخلي.

في مصر، أزمةٌ اقتصاديةٌ مستمرة وضيقٌ متعاظمٌ في المعيشة وعجزٌ عن توفير أبسط مستلزمات الحياة.. قمعٌ سياسيٌ وسحقٌ وتنكيلٌ بكل القوى السياسية.. بيعٌ مستمرٌ للأصول ومن ضمنها الأراضي، التي قد تنتزع عنوةً من مالكيها وساكنيها لتمويل الإنفاق السفهي وسد فوائد الديون، لا الديون نفسها، تناكصٌ مخزٍ عن الاضطلاع بالدور الذي يُتوقع من مصر بحجمها ومكانتها، عنتريات على الشعب وضعفٌ وخذلان في الخارج.

ثم جاءت تلك التسريبات الأخيرة لوزير خارجية نظام السيسي، يوبخ فيها سفيره عما يراه تقاعساً عن التعامل مع من يغلقون السفارات (بغض النظر عن رأينا في الفعل) مطالباً بالرد بالمثل، والتعامل الخشن مع مرتكبي ذلك، مستخدماً عباراتٍ سوقية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حرّك بعض الشباب للتصدي لهؤلاء المهاجمين وسط تهليل من إعلام السيسي، بل ومطالبة أحدهم (عضو برلمان بالمناسبة) بانتهاك هؤلاء المهاجمين مستعيراً ومستشهداً بشخصية (فرج) من فيلم «الكرنك» المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ.

لقد تعاملوا مع الأمر كنصرٍ مبين، وغزوةٍ ناجحة للغرب في عقر داره لا ينقصها سوى السبايا، فطالب أحد الإعلاميين بالاستعاضة عنهن باغتصاب المحتجين أنفسهم.

كل هذا والمذبحة في غزة لم تتوقف والدور المصري لم يتطور أو ينضج والأزمة الاقتصادية تزداد اختناقا

لم تتوقف والدور المصري لم يتطور أو ينضج والأزمة الاقتصادية تزداد اختناقاً. تلقيت كغيري ذلك الخليط المزعج بمزيجٍ من السخرية والضحك الممرور، والازدراء والقرف العظيمين، لكنني بعد تفكيرٍ وجدتني أشعر بشيءٍ من البهجة والراحة النفسي، فما يحدث منطقيٌ تماماً، إن السيسي، الرجل الضئيل، لا يستطيع التورط والإقدام سوى على المعارك التي تناسب شاكلته وحجمه، المعارك الصغيرة، التافهة، ولا يستطيع الشعور بذاته (الضئيلة كما أوضحنا) سوى في انعكاسها خوفاً أو تملقاً على الآخرين.

كما أنه متسقٌ مع ذاته، فهو لا يبطش ولا يكشر عن أنيابه إلا مع المصريين أو الفلسطينيين، كل من يحسبهم أضعف منه ولا تقف وراءهم قوى أو دول قادرة على حمايتهم و»لن يسأل عنهم أحد»، والأمر نفسه ينسحب على البيع المستمر للأصول والبطش والترويع للمواطنين.

فالشكر موصولٌ إذن ومستحق للرئيس السيسي، فلئن كانت الثورات قد أعادت الاعتبار للتاريخ، فإنه قد أعاد الاعتبار للمنطق واتساق النظام مع ذاته ومع الصورة العامة الرديئة.

مشاركة

Error category videos cards

قد يعجبك

قد يعجبك

تابعونا على تويتر انضم إلينا على الفيسبوك
تحميل تطبيق توابل - أجود أنواع التوابل المغربية