مشاركة
على رغم استنكار الولايات المتحدة وإسرائيل للاعتراف بالدولة الفلسطينية، لن تتمكن لندن وباريس وأوتاوا من الاتفاق على تدابير فعالة لمعاقبة إسرائيل، فلا تزال الحكومات الثلاث تؤمن في حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، ولا تزال تمقت ما حدث في 7 أكتوبر 2023، ولا تزال ترى عيوباً واضحة في طريقة إدارة السلطة الفلسطينية الضفة الغربية، ولا تزال "حماس" مصنفة لدى الدول الثلاث منظمة إرهابية. وعلى رغم أن اعتراف 147 دولة من أصل 193 أي نحو ثلاثة أرباع دول العالم بدولة فلسطين منذ عقود، لم يسفر عن تغيير واقعي نظراً إلى أن الإسرائيليين هم من يملكون معظم الأوراق التي تتيح للفلسطينيين نيل حريتهم وممارسة حقوقهم كدولة من خلال قواتهم على الأرض ومستوطناتهم المنتشرة في أنحاء القدس الشرقية والضفة الغربية، إلا أنه إذا اعترفت كندا وفرنسا والمملكة المتحدة الآن بدولة فلسطين، سيكون له مغزى مختلف نسبياً، لأن المملكة المتحدة وكندا وفرنسا، هي أكثر نفوذاً من الدول الأخرى على الساحة الدولية. لكن الواقع السياسي يشير إلى أنه من غير المرجح أن تكون هناك خطوات للأمام لمحاولة تغيير الوضع على الأرض بصورة جوهرية إذا لم تكن الولايات المتحدة مشاركة، فهي لا تزال تتمتع في حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي في شأن قبول فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، كما تزود الولايات المتحدة إسرائيل بمعظم الأسلحة، وتوفر لها درعاً دبلوماسية في المنظمة الدولية وفي المحافل الدولية الأخرى، وطالما بقيت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل متينة وصلبة كما هي، فمن الصعب تصور كيف يمكن اتخاذ أي خطوات جوهرية لتغيير الواقع على الأرض. ولا يمكن إنكار أن هذه الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين هي نتيجة مباشرة لفشل إسرائيل في صياغة أي خطة معقولة لليوم التالي لغزة، إذ لم تحظَ جهود إدارة بايدن (الرئيس السابق جو بايدن) السابقة لتحديد الجوانب الأمنية والحكم والمساعدات الإنسانية في غزة باهتمام يذكر، وزاد ترمب الطين بلة بعرضه اقتراحه لبناء "ريفييرا" غزة، وهو ما عده الوزراء المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية ترخيصاً لتحقيق رؤيتهم بإعادة احتلال القطاع، وإفراغه من سكانه الفلسطينيين، وإعادة المستوطنين إليه، وضمه إلى إسرائيل. ومع رفض الرئيس الأميركي إعلانات الاعتراف بدولة فلسطين، التي تزامنت مع أزمة المجاعة في غزة، أصبح أمامه فرصة للتحول إلى اتجاه جديد إضافة إلى الضغط من أجل زيادة هائلة في المساعدات الإنسانية، وبحسب سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل دانيال شابيرو، فإنه ينبغي على ترمب الآن الانتقال إلى العمل مع إسرائيل للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب والإفراج عن جميع الرهائن، مع خطة متابعة للعمل مع الدول العربية في شأن إخراج قادة ومسلحي "حماس" المتبقين من القطاع، ونشر قوة أمنية عربية، وتشكيل قيادة فلسطينية بديلة مستعدة للعيش بسلام مع إسرائيل. وبينما ستظل أنظار الحكومة الإسرائيلية منصبة على واشنطن، حيث يتصدى ترمب لإعلانات قبول السيادة الفلسطينية، ويقاوم حتى الآن الضغوط لفرض أي قرار على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإن أي تغيير في وجهة نظر البيت الأبيض حول قضية الاعتراف بدولة فلسطين، قد يدفع إلى إعادة تقييم مماثلة لاستراتيجية إسرائيل أيضاً، كما يرى شالوم ليبنر، كبير الباحثين في مبادرة "سكوكروفت" لأمن الشرق الأوسط في واشنطن. وفي حين اعترفت واشنطن بالسلطة الفلسطينية، التي يترأسها حالياً محمود عباس، منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لكنها لم تعترف بدولة فعلية على رغم أن عديداً من الرؤساء الأميركيين، أعربوا عن دعمهم لقيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف باستثناء دونالد ترمب الذي انحاز بشدة لمصلحة إسرائيل في دورتي حكمه الأولى والثانية. لكن يبدو أن دوافع فرنسا والمملكة المتحدة وكندا تختلف جذرياً عن دوافع الولايات المتحدة، إذ إن قرار فرنسا بالاعتراف بدولة فلسطينية في سبتمبر، مدفوع بتقييمها بأن تحقيق حل الدولتين في خطر داهم مع اقتراب الحرب في غزة من عامها الثاني، وتسارع وتيرة الاستيطان الإسرائيلي للضفة الغربية بدعم من المستوطنين العنيفين، وأن إمكان قيام دولة فلسطينية أصبحت بعيدة المنال بصورة متزايدة. ولهذا ترى فرنسا أن أي انهيار استراتيجي في التوازن الإقليمي قد يؤدي إلى عواقب أمنية وإنسانية غير مبررة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، ولهذا اختارت باريس التحرك، ليس فقط استكمالاً للجهود الأميركية الرامية إلى التوصل إلى وقف سريع لإطلاق النار، وإنما أيضاً لأن فرنسا تعتقد أن الاعتراف بدولة فلسطينية يمكن أن يفسح المجال لخيارات سياسية مستدامة، وفقاً للباحثة في مركز "أوروبا" التابع للمجلس الأطلسي ليوني ألارديس. بشكل مشترك في مؤتمر للأمم المتحدة عقد في 28 يوليو (تموز) الماضي، سعت فيه الدولتان إلى الحصول على دعم واسع النطاق في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر لقرار يحدد خطوات ملموسة ومحددة زمنياً ولا رجعة فيها نحو تنفيذ حل الدولتين وهو القرار الذي حظي بدعم دول جامعة الدول العربية، ويشمل نزع سلاح "حماس" وإبعادها عن أي مستقبل في حكم فلسطين، والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. أما اعتراف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بدولة فلسطينية والمشروط بأن تجري إسرائيل تغييراً جذرياً غير متوقع في سياستها، فيعد تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية البريطانية، الذي يعود إلى تزايد الضغط من حزبه والرأي العام في الأشهر الأخيرة على المملكة المتحدة لبذل مزيداً من الجهود لإنقاذ الأرواح على المدى القصير والمساعدة في تهيئة الظروف لتسوية سياسية مستدامة بعد الصراع. ومع اختلاف دوافع ترمب الذي رفض الخطوات الفرنسية والبريطانية للاعتراف بدولة فلسطينية، ووقع عقوبات على كندا بفرض رسوم جمركية بقيمة 35 في المئة على السلع غير المشمولة في اتفاقية التعاون التجاري بين المكسيك وكندا وأميركا، إلا أنه شرع في اتخاذ خطوات أسرع نحو التوصل إلى صيغة شاملة لإنهاء الحرب في غزة وسعى للضغط من خلف الكواليس على حكومة نتنياهو. ومع ذلك قد لا يصل ترمب إلى حد الاعتراف بدولة فلسطين لاعتبارات تتعلق بضغوط اللوبي الإسرائيلي داخل واشنطن، وادعائه بأن الاعتراف البريطاني والفرنسي والكندي قد يعقد الأمور، فقد ترى "حماس" فوائد في التخلص من حكم السلطة الفلسطينية في رام الله ظناً منها بأنها أكثر شعبية من السلطة في الضفة هذه الأيام، وقد يكثف نتنياهو، الذي لا يؤيد حل الدولتين، عملياته في كل من غزة والضفة الغربية لتوضيح من يتولى زمام الأمور، ولتوجيه رسالة أكثر فاعلية إلى بريطانيا وفرنسا مما توجهانه إليه. على رغم استنكار الولايات المتحدة وإسرائيل للاعتراف بالدولة الفلسطينية، لن تتمكن لندن وباريس وأوتاوا من الاتفاق على تدابير فعالة لمعاقبة إسرائيل، فلا تزال الحكومات الثلاث تؤمن في حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولا تزال تمقت ما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ولا تزال ترى عيوباً واضحة في طريقة إدارة السلطة الفلسطينية الضفة الغربية، ولا تزال "حماس" مصنفة لدى الدول الثلاث منظمة إرهابية.
مشاركة