مشاركة
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته. الحديث الثاني بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر الحديث الرابع والعشرون قال الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الحديث الخامس والثلاثون لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض مَعَ إِسْنَادَيْنِ آخَرَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ وَلَمْ يُمَيِّزْ لَفْظَ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ، وَلَفْظُ حَدِيثِهِ : يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ ؟ " فَقُلْتُ : بَلَى ، فَقَالَ : " احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فِي " الْأَحَادِيثِ الْكُلِّيَّةِ " الَّتِي هِيَ أَصْلُ أَرْبَعِينَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ . قُلْتُ : وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِشَرْحِهِ جُزْءًا كَبِيرًا وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا مَقَاصِدَهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ، وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ الْقَلْبِ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُحَرَّمٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ ، وَمَدَحَ الْحَافِظِينَ لَهَا ، فَقَالَ : عِنْدَ إِهْبَاطِهِ إِلَى الْأَرْضِ : حَفِظُ فَرْجِهِ ، وَقَالَ لَا تَضَعْهُ إِلَّا فِي حَلَالٍ . أَحَدُهُمَا : حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ ، كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : : هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّوْا عَنْهُ . : مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَأْتِيهِ إِلَّا قَالَ : وَرَاءَكَ ، إِلَّا شَيْئًا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ . لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي ، وَآمِنْ رَوْعَتِي ، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي ، وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي وَمَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ ، حَفِظَهُ اللَّهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ . كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةً وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ ، فَوَثَبَ يَوْمًا وَثْبَةً شَدِيدَةً ، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : هَذِهِ جَوَارِحٌ حَفِظْنَاهَا عَنِ الْمَعَاصِي فِي الصِّغَرِ ، فَحَفِظَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْكِبَرِ . وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ رَأَى شَيْخًا يَسْأَلُ النَّاسَ فَقَالَ : إِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ضَيَّعَ اللَّهَ فِي صِغَرِهِ ، فَضَيَّعَهُ اللَّهُ فِي كِبَرِهِ . وَقَدْ يَحْفَظُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِصَلَاحِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : : إِنَّ اللَّهَ لَيَحْفَظُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَالدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ وَسِتْرٍ . وَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا بِطَاعَةِ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَفِي " مُسْنَدِ فَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ أَذًى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ ، وَمَنْ ضَيَّعَ تَقْوَاهُ ، فَقَدْ ضَيَّعَ نَفْسَهُ ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عَنْهُ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كُسِرَ بِهِ الْمَرْكِبُ ، وَخَرَجَ إِلَى جَزِيرَةٍ ، فَرَأَى الْأَسَدَ ، فَجَعَلَ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ ، فَلَمَّا أَوْقَفَهُ عَلَيْهَا ، جَعَلَ يُهَمْهِمْ كَأَنَّهُ يُوَدِّعُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ . نَائِمًا فِي بُسْتَانٍ وَعِنْدَهُ حَيَّةٌ فِي فَمِهَا طَاقَةُ نَرْجِسٍ ، فَمَا زَالَتْ تَذُبُّ عَنْهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ . وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ مَنْ ضَيَّعَ اللَّهَ ، ضَيَّعَهُ اللَّهُ ، فَضَاعَ بَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ وَالْأَذَى مِمَّنْ كَانَ يَرْجُو نَفْعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ خَادِمِي وَدَابَّتِي . النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحِفْظِ ، وَهُوَ أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ : حِفْظُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ ، فَيَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ ، وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ ، فَيَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِيمَانِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِذَا حَضَرَ الرَّجُلَ الْمَوْتُ يُقَالُ لِلْمَلَكِ : شَمَّ رَأْسَهُ ، قَالَ : أَجِدُ فِي رَأْسِهِ الْقُرْآنَ ، قَالَ : شَمَّ قَلْبَهُ ، قَالَ : أَجِدُ فِي قَلْبِهِ الصِّيَامَ ، قَالَ : شَمَّ قَدَمَيْهِ قَالَ : أَجِدُ فِي قَدَمَيْهِ الْقِيَامَ قَالَ : حَفِظَ نَفْسَهُ ، فَحَفِظَهُ اللَّهُ . يُوَدِّعُ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا ، فَيَقُولُ : " أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " - وَذَكَرَ أَهْلَ الْمَعَاصِي - : هَانُوا عَلَيْهِ ، فَعَصَوْهُ ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ . : إِنَّ الْعَبْدَ لَيَهُمُّ بِالْأَمْرِ مِنَ التِّجَارَةِ وَالْإِمَارَةِ حَتَّى يُيَسَّرَ لَهُ ، فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : اصْرِفُوهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ إِنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ ، فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ عَنْهُ ، فَيَظَلُّ يَتَطَيَّرُ يَقُولُ : سَبَقَنِي فَلَانٌ دَهَانِي فُلَانٌ ، وَمَا هُوَ إِلَّا فَضْلُ اللَّهِ عَزَّ جَلَّ . : مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَكُنْ مَعَهُ ، وَمَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ ، فَمَعَهُ الْفِئَةُ الَّتِي لَا تُغْلَبُ ، وَالْحَارِسُ الَّذِي لَا يَنَامُ ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يَضِلُّ . [ الْبَقَرَةِ : 108 ] ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي عِلْمَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِمْ ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِتَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْهُ . وَالْمَعِيَّةُ الْأُولَى تَقْتَضِي حِفْظَ الْعَبْدِ وَحِيَاطَتَهُ وَنَصْرَهُ ، فَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ ، وَجَدَهُ أَمَامَهُ وَتُجَاهَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَاسْتَأْنَسَ بِهِ ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ خَلْقِهِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ " اتَّقَى اللَّهَ ، وَحَفِظَ حُدُودَهُ ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ فِي حَالِ رَخَائِهِ ، فَقَدْ تَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ ، فَعَرَفَهُ رَبُّهُ فِي الشِّدَّةِ ، وَرَعَى لَهُ تَعَرُّفَهُ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ ، فَنَجَّاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ، وَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ . فَمَعْرِفَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَعْرِفَةُ الْعَامَّةُ ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْإِقْرَارِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ ، وَهَذِهِ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَالثَّانِي : مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي مَيْلَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ ، وَالْأُنْسَ بِهِ ، وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِهِ ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ ، وَالْهَيْبَةَ لَهُ ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي يَدُورُ حَوْلَهَا الْعَارِفُونَ ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : مَسَاكِينُ أَهْلِ الدُّنْيَا ، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا ، قِيلَ لَهُ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . : أُحِبُّ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أَعْرِفَ مَوْلَايَ ، وَلَيْسَ مَعْرِفَتُهُ الْإِقْرَارَ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا عَرَفْتَهُ اسْتَحْيَيْتَ مِنْهُ . وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ أَيْضًا لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ : مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ ، وَهِيَ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ وَمَا أَعْلَنُوهُ ، كَمَا قَالَ : ، وَتَقْرِيبَهُ إِلَيْهِ ، وَإِجَابَةَ دُعَائِهِ ، وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الشَّدَائِدِ ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنْ رَبِّهِ " ، أَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَبِّكَ مَا تَدْعُوهُ ، فَيَسْتُرُكَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؟ ادْخُلِ الْبَيْتَ ، فَدَخَلَ ، وَدَخَلَ الشُّرَطُ عَلَى أَثَرِهِ ، فَلَمْ يَرَوْهُ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : بَلْ كَانَ فِي الْبَيْتِ ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ طَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَرَوْهُ . : وَمَا الَّذِي هَيَّجَكَ إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْعِبَادَةِ ؟ وَذَكَرَ لَهُ الْمَوْتَ وَالْبَرْزَخَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ - فَقَالَ : إِنَّ مَلِكًا هَذَا كُلُّهُ بِيَدِهِ إِنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ كَفَاكَ جَمِيعَ هَذَا . وَفِي الْجُمْلَةِ ، فَمَنْ عَامَلَ اللَّهَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ رَخَائِهِ ، عَامَلَهُ اللَّهُ بِاللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ فِي حَالِ شِدَّتِهِ . عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : كَانَ طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ، قَالَ : آمَنْتُ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : : إِذَا كَانَ الرَّجُلُ دَعَّاءً فِي السَّرَّاءِ ، فَنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : صَوْتٌ مَعْرُوفٌ فَشَفَعُوا لَهُ ، وَإِذَا كَانَ لَيْسَ بِدَعَّاءٍ فِي السَّرَّاءِ ، فَنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : صَوْتٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ ، فَلَا يَشْفَعُونَ لَهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ادْعُ اللَّهَ فِي يَوْمِ سَرَّائِكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكَ فِي يَوْمِ ضَرَّائِكَ . وَأَعْظَمُ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ ، وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَصِيرُ الْعَبْدِ إِلَى خَيْرٍ ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِالتَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَرَخَائِهِ ، وَاسْتَعَدَّ حِينَئِذٍ لِلِقَاءِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ ، ذَكَرَهُ اللَّهُ عِنْدَ هَذِهِ الشَّدَائِدِ ، فَكَانَ مَعَهُ فِيهَا ، وَلَطَفَ بِهِ ، وَأَعَانَهُ ، وَتَوَلَّاهُ ، وَثَبَّتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ ، فَلَقِيَهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ ، وَمَنْ نَسِيَ اللَّهَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَرَخَائِهِ ، وَلَمْ يَسْتَعِدَّ حِينَئِذٍ لِلِقَائِهِ ، نَسِيَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الشَّدَائِدِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ ، وَأَهْمَلَهُ فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ ، أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ ، وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ ، فَأَحَبَ لِقَاءَ اللَّهِ ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَالْفَاجِرُ بِعَكْسِ ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ ، وَيَسْتَبْشِرُ بِمَا قَدَّمَهُ مِمَّا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ ، وَيَنْدَمُ الْمُفْرِّطُ ، وَيَقُولُ : لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ : أَتَرَى اللَّهَ يُضَيِّعُ لِأَبِيكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ ؟ . الْقُرْآنَ وَهُوَ مُسَجَّى لِلْمَوْتِ ، ثُمَّ قَالَ : بِحُبِّي لَكَ ، إِلَّا رَفَقْتَ بِي فِي هَذَا الْمَصْرَعِ ؟ كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ لِهَذَا الْيَوْمِ ، كُنْتُ أَرْجُوكَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، ثُمَّ قَضَى . عِنْدَ مَوْتِهِ : سَيِّدِي لِهَذِهِ السَّاعَةِ خَبَّأْتُكَ ، وَلِهَذَا الْيَوْمِ اقْتَنَيْتُكَ ، حَقِّقْ حُسْنَ ظَنِّي بِكَ . الْآيَةَ [ فُصِّلَتْ : 30 ] قَالَ : يُبَشَّرُ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَفِي قَبْرِهِ ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ ، فَإِنَّهُ لَفِي الْجَنَّةِ ، وَمَا ذَهَبَتْ فَرْحَةُ الْبِشَارَةِ مِنْ قَلْبِهِ . فِي هَذِهِ الْآيَةِ : بَلَغَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنْ قَبْرِهِ ، وَيَتَلَقَّاهُ مَلَكَاهُ اللَّذَانِ كَانَا مَعَهُ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولَانِ لَهُ : لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ، فَيُؤَمِّنُ اللَّهُ خَوْفَهُ ، وَيُقِرُّ اللَّهُ عَيْنَهُ ، فَمَا مِنْ عَظِيمَةٍ تَغْشَى النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ لِلْمُؤْمِنِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِمَا هَدَاهُ اللَّهُ ، وَلِمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا . فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ . ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أَوْ خِطَامُ نَاقَتِهِ ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ . كَذَا وَكَذَا أَهْلُ بَيْتٍ ، مَا لَهُمْ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ صَاعٍ ، فَاسْأَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ ، فَقَالَتْ : مَا قَالَ لَكَ ؟ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ : نِعْمَ مَا رَدَّ عَلَيْكَ ، فَمَا لَبِثَ أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَإِبِلَهُ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمَسْأَلَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ ، وَقَرَأَ : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : هَلْ مِنْ دَاعٍ ، فَأَسْتَجِيبُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ ذَا الَّذِي دَعَانِي فَلَمْ أُجِبْهُ ؟ وَسَأَلَنِي فَلَمْ أُعْطِهِ ؟ وَاسْتَغْفَرَنِي ، فَلَمْ أَغْفِرْ لَهُ وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ؟ ، لِأَنَّ السُّؤَالَ فِيهِ إِظْهَارُ الذُّلِّ مِنَ السَّائِلِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ ، وَفِيهِ الِاعْتِرَافُ بِقُدْرَةِ الْمَسْئُولِ عَلَى دَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ ، وَنَيْلِ الْمَطْلُوبِ ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ ، وَدَرْءِ الْمَضَارِّ ، وَلَا يَصْلُحُ الذُّلُّ وَالِافْتِقَارُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ ، وَكَانَ يَدْعُو وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ سِوَاهُ . كَمَا قَالَ : ، وَيُلَحَّ فِي سُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ ، وَيَغْضَبَ عَلَى مَنْ لَا يَسْأَلُهُ ، وَيَسْتَدْعِي مِنْ عِبَادِهِ سُؤَالَهُ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعْطَاءِ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ سُؤْلَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ ، وَالْمَخْلُوقُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ : يَكْرَهُ أَنْ يَسْأَلَ ، وَيُحِبُّ أَنْ لَا يُسْأَلَ ، لِعَجْزِهِ وَفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يَأْتِي الْمُلُوكَ : وَيْحَكَ ، تَأْتِي مَنْ يُغْلِقُ عَنْكَ بَابَهُ ، وَيُظْهِرُ لَكَ فَقْرَهُ ، وَيُوَارِي عَنْكَ غِنَاهُ ، وَتَدَعُ مَنْ يَفْتَحُ لَكَ بَابَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَنِصْفَ النَّهَارِ ، وَيُظْهِرُ لَكَ غِنَاهُ ، وَيَقُولُ ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ ؟ ! . : إِيَّاكَ أَنْ تَطْلُبَ حَوَائِجَكَ إِلَى مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَكَ وَيَجْعَلُ دُونَهَا حُجَّابَهُ ، وَعَلَيْكَ بِمَنْ بَابُهُ مَفْتُوحٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ ، وَوَعَدَكَ أَنْ يُجِيبَكَ . ، فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهِ ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِ ، وَلَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ ، فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْبَرْزَخِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَمَنْ حَقَّقَ الِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعَانَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : : لَا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَيَكِلُكَ اللَّهُ إِلَيْهِ . وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ : يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَرْجُو غَيْرَكَ ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ . ، فَإِنَّ الْكِتَابَ إِذَا فُرِغَ مِنْ كِتَابَتِهِ ، وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ عَنْهُ ، وَطَالَ عَهْدُهُ ، فَقَدْ رُفِعَتْ عَنْهُ الْأَقْلَامُ ، وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ الَّتِي كُتِبَ بِهَا مِنْ مِدَادِهَا ، وَجَفَّتِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا بِالْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ فِيهَا ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكِنَايَاتِ وَأَبْلَغِهَا . وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ ، وَتَقْدِيمِ طَاعَتِهِ عَلَى طَاعَةِ الْخَلْقِ جَمِيعًا ، وَأَنْ يَتَّقِيَ سُخْطَهُ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ سُخْطُ الْخَلْقِ جَمِيعًا ، وَإِفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ ، وَالسُّؤَالِ لَهُ ، وَإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَحَالِ الرَّخَاءِ ، بِخِلَافِ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ، وَنِسْيَانِهِ فِي الرَّخَاءِ ، وَدُعَاءِ مَنْ يَرْجُونَ نَفْعَهُ مِنْ دُونِهِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَعْنِي : أَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ الْمُؤْلِمَةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِ إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا ، كَانَ لَهُ فِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْيَقِينِ ؟ قَالَ : " أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ ، فَإِذَا أَنْتَ أَحْكَمْتَ بَابَ الْيَقِينِ " وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حُصُولَ الْيَقِينِ لِلْقَلْبِ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالتَّقْدِيرِ الْمَاضِي يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَرْضَى نَفْسُهُ بِمَا أَصَابَهُ ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْيَقِينِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ ، فَلْيَفْعَلْ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا ، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرًا كَثِيرًا . : هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ " وَمِمَّا يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُوصِيَهُ وَصِيَّةً جَامِعَةً مُوجَزَةً ، فَقَالَ : " لَا تَتَّهِمِ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ : إِنَّ اللَّهَ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ ؛ فَالرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ فَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ ، كَانَ عَيْشُهُ كُلُّهُ فِي نَعِيمٍ وَسُرُورٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : [ النَّحْلِ : 97 ] قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ : هِيَ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةُ . وَقَالَ وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ ، ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ جَزِيلَ الْأَجْرِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ، وَكَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْجَزَعِ ، وَالرِّضَا : انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالْقَضَاءِ ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ الْمُؤْلِمِ ، وَإِنْ وُجِدَ الْإِحْسَاسُ بِالْأَلَمِ ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ الْقَلْبَ مِنْ رُوحِ الْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا ، فَقَدْ يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِالْأَلَمِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ . : بِمَ قَاتَلْتُمُ النَّاسَ ؟ قَالُوا : بِالصَّبْرِ ، لَمْ نَلْقَ قَوْمًا إِلَّا صَبَرْنَا لَهُمْ كَمَا صَبَرُوا لَنَا . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلُّنَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ : الشَّجَاعَةُ صَبْرُ سَاعَةٍ . وَهَذَا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ ، وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ ، هُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى ، فَإِنَّ جِهَادَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْجِهَادِ : ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ، فَجَاهِدْهَا ، وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ ، فَاغْزُهَا . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اسْتَخْلَفَهُ : إِنَّ أَوَّلَ مَا أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ . فَهَذَا الْجِهَادُ يَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى صَبْرٍ ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ وَشَيْطَانِهِ ، غَلَبَهُ وَحَصَلَ لَهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ ، وَمَلَكَ نَفْسَهُ ، فَصَارَ عَزِيزًا مَلِكًا ، وَمَنْ جَزَعَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُجَاهَدَةِ ذَلِكَ ، غُلِبَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ ، وَصَارَ عَبْدًا ذَلِيلًا أَسِيرًا فِي يَدَيْ شَيْطَانِهِ وَهَوَاهُ ، كَمَا قِيلَ : : مَنْ صَبَرَ ، فَمَا أَقَلَّ مَا يَصْبِرُ ، وَمَنْ جَزَعَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَتَمَتَّعُ . " يَشْمَلُ النَّصْرَ فِي الْجِهَادَيْنِ : جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ ، وَجِهَادِ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِمَا ، نُصِرَ وَظَفِرَ بِعَدُوِّهِ ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فِيهِمَا وَجَزِعَ ، قُهِرَ وَصَارَ أَسِيرًا لِعَدُوِّهِ أَوْ قَتِيلًا لَهُ . " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ الْقَطْرِ عَنْهُمْ وَقُنُوطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ فَرَجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ ، بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ ، وَتَغْيِيرِهِ لِحَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . وَقَالَ تَعَالَى : لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ ، فَدَخَلَ هَذَا الْجُحْرَ ، لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مُرْسَلًا نَحْوَهُ ، وَفِي حَدِيثِهِ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ : لَوْ أَنَّ الْعُسْرَ دَخَلَ فِي جُحْرٍ لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَقُولُ : مَهْمَا يَنْزِلْ بِامْرِئٍ شِدَّةٌ يَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَهَا فَرَجًا ، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ، وَإِنَّهُ يَقُولُ : عَلَى اللَّهِ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُطْلَبُ بِهَا الْحَوَائِجُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ، فَقَالَ لَهُ : أَرْسِلْ إِلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ ، فَأَكَبَّ قَدْ مَلَأَ الْفِنَاءَ إِبِلًا ، فَقَصَّ عَلَى أَبِيهِ أَمْرَهُ وَأَمَرَ الْإِبِلَ ، فَأَتَى أَبُوهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ عَوْفٍ وَخَبَرِ الْإِبِلِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اصْنَعْ بِهَا مَا أَحْبَبْتَ ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا بِإِبِلِكَ ، وَنَزَلَ : : لَوْ يَئِسْتَ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى لَا تُرِيدَ مِنْهُمْ شَيْئًا ، لَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ كُلَّ مَا تُرِيدُ . وَذَكَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ ، فَطَلَبَهَا ، فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا حَاجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَعَجِبَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَكَ : مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْجَحُ مَا طُلِبَتْ بِهِ الْحَوَائِجُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الْفَرَجَ ، وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْإِجَابَةِ فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ ، وَقَالَ لَهَا : إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ ، وَلَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَأُجِبْتُ ، وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَاعْتِرَافَهُ لَهُ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ ، فَلِذَلِكَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الْكُرَبِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِهِ . : تَعَبَّدَ رَجُلٌ زَمَانًا ، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ ، فَصَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا ، يَأْكُلُ فِي كُلِّ سَبْتٍ إِحْدَى عَشْرَةَ تَمْرَةً ، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَلَمْ يُعْطِهَا ، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : مِنْكِ أُتِيتُ ، لَوْ كَانَ فِيكِ خَيْرٌ ، أُعْطِيتِ حَاجَتَكِ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَلَكٌ ، فَقَالَ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ سَاعَتُكَ هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَتِكَ الَّتِي مَضَتْ ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَاجَتَكَ . خَرَّجَهُ قلت : وقد أفردت لشرحه جزءا كبيرا ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى . النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول : اللهم احفظني بالإسلام قائما ، واحفظني بالإسلام قاعدا ، واحفظني بالإسلام راقدا ، ولا تطع في عدوا ولا حاسدا فمعرفة العبد لربه نوعان : أحدهما : المعرفة العامة ، وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان ، وهذه عامة للمؤمنين . يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني ، لأعيذنه فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ليس عدوك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة ، وإذا قتلته كان لك نورا ، أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك
مشاركة