الطائفية بين السردية التاريخية وتجارة الأزمة
مشاركة
الفقه أو التشريع الديني هو مجموعة الممارسات التي يؤديها المؤمن، إيمانا منه بأنها ترضي ربّه وتقوده إلى الخلاص المتمثل في نعيم الحياة الأخروية الخالدة التي بشّرت بها عقيدته. فلسفيا، يُعد الفقه إطارا أخلاقيا وعمليا ينظم ويهذّب سلوك الفرد ضمن نسق معرفي يربط الفعل بالغاية الروحية، موجها الإرادة البشرية نحو تحقيق المثل الأعلى كما عند أرسطو في مفهوم "الغاية". يشمل التشريع عبادات توقيفية، كالصلاة والصيام والأضاحي، والتي تُؤدى بطاعة مطلقة دون مساءلة كيفيتها، إلى جانب المعاملات التي تنظم العلاقات الاجتماعية كالمعاملات التجارية والزواج، مما يعكس التوازن بين الفرد والجماعة. تاريخيا، كان للفقه دور مركزي في تشكيل المجتمعات، حيث عززت الشعائر، كالحج أو القداس، والهوية الدينية والتماسك الاجتماعي بوصفها ممارسات تؤدى بشكل جماعي يعكس قوة الجماعة وتجانسها واستعداداها للاجتماع ضد أي تهديد لوجودها. هذه الشعائر، بوصفها ممارسات رمزية، تُظهر انتماء الفرد للجماعة الدينية، معززة الشعور بالقداسة والانضباط الروحي. والأهم من ذلك الاستعداد للتضحية في سبيل الجماعة حيث فكرة الحرب المقدسة والاستشهاد والفداء مقابل النعيم الأبدي في الجنة بغض النظر عن النتيجة الدنيوية للمعركة بالانتصار أو الهزيمة العسكرية.

تنقسم السردية التاريخية في الدين إلى بعدين: الأول متفق عليه كضرورة دينية، مثل نبوة محمد في الإسلام أو قيامة المسيح في المسيحية. والثاني مختلف عليه، كمكانة علي بن أبي طالب عند الشيعة مقابل السنة، وعدالة عموم الصحابة عن السنة مقابل الفرز عند الشيعة. أو تأويل دور بطرس في الكاثوليكية مقابل البروتستانتية. تاريخيا، هذه الاختلافات أدت إلى انقسامات عميقة، كآلية الخلافة بعد النبي في الإسلام أو الانشقاق الكبير في المسيحية، مما أثر على العقائد (كالإمامة عند الشيعة مقابل الخلافة عند السنة) والممارسات (كطقوس القداس المتباينة عن المسيحيين). هكذا، يشكل التاريخ الديني هوية الطوائف، معززا انتماءها عبر السرديات، لكنه يُنتج صراعات حول تفسير الأحداث وأهمية الشخصيات.

عند التدقيق في الجوانب الثلاثة، سنجد الجانب التاريخي هو حجر الأساس واستحضار المشاكل الطائفية. فالعقيدة شبه ثابتة ولا يمكن مساءلتها إلا بثورة إصلاحية من الداخل. يشترط في المُصلح أن يكون مستوفيا لشروط القيادة الدينية الكلاسيكية قبل أن يتجرأ على طرح أفكاره الإصلاحية، التي تحتاج هي الأخرى لشرعية النصّ الديني. بمعنى أن تكون تفسيرا للنص المقدس وليس بدعا من القول. أما على الجانب الفقهي، فهو مرتبط بممارسات الجماعة التي قد تختلف في كيفيتها مع الجماعات الأخرى التي تنضوي تحت اسم الدين الشامل نفسه (الإسلام أو المسيحية أو غيرهما). المقصود أن العقيدة والفقه شؤون داخلية للجماعة لا يستطيع أن يحاسبها عليها، وهي أمور- غالبا- لا تعني أولئك الذين لا ينتمون للجماعة. وحتى مسألة التقبّل أو الاشمئزاز لا تعدو كونها تفضيلات شخصية لا يمكن الركون إليها. الإشكالية كلها تقع في الجانب التاريخي.

إن الخلاف العقدي والتشريعي، مهما كان عميقا، ليس هو ما يشعل فتيل الطائفية. بل الخلاف التاريخي. ولو تمعّن أتباع الدين الواحد في خلافاتهم، لوجدوا أنها أعمق بكثير من مجرد الخلاف على شخصية بعينها. فهم يختلفون في ماهية الإله وكيفية الوحي وقداسة بعض النصوص من عدمها وبعض تفاصيل الشعائر. ومع ذلك لا تثير تلك الأمور- التي يفترض أن تكون محورية- شيئا من حفيظة الجماعة. في المقابل، فإن الحطّ من مكانة القديس أو الصحابي أو الإمام، كفيلٌ بإشعال سجال وعنفٍ بين أبناء المجتمع الواحد.

يحتاج السياسيون للاستقطاب من أجل ضمان ولاء المكونات الاجتماعية، يكون الاستقطاب عادة على أساس فئوي (عِرق، إثنية، طائفة) لأنه أسهل في الفرز وإقناع عامة الناس بضرورة الالتزام بالهوية الفرعية كملاذٍ من الحيف الذي قد يقع في حال تمسكوا بالهوية الوطنية الجامعة المتمثّل في اتباع القوانين المكتوبة. وعليه، فإن القادة المحركين للمشهد السياسي يعون قواعد اللعبة، والتي يعلو صوتهم فيها على صوت العقلاء والوطنيين.

لنأخذ لبنان والعراق كأمثلة حية على حالة الاستقطاب للهويات الفرعية. بالرغم من مدنيّة الدستور في كلا البلدين، فإن العملية السياسية برمتها تقوم على المحاصصة الطائفية. وبما أن المواطن يعلم وهو في طريقه لصندوق الاقتراع أن المواقع السيادية موزعة طائفيا، فإنه يدرك- بوعي أو بلا وعي- أن ذلك المنصب "لنا" وذاك "لهم". هذه الحقيقة التي لا يمكن نكرانها تؤسس للفرز الطائفي في وجدان عامة الشعب بغض النظر عن مستوى تدينهم الشخصي.

إن الخطاب الطائفي الذي يحاول دسّ العناوين العقدية والفقهية بين طياته، أمرٌ خطير يجب الالتفات له والوعي للسرديات التاريخية التي يريد تسويقها. والمسألة لا تكمن في محاولة طمس التاريخ أو تصحيحه، بل في الوعي بكونه تاريخا ماضيا يجب أن لاّ يتم استحضاره لمحاسبة الآخرين. وما دامت الخلافات تبدأ من التاريخ الذي يروي سردية لأحداث حصلت في الماضي، فينبغي وضعها في مكانها الطبيعي بوصفها أمرا معرفيا قابلا للنقاش دون ترتيب أثر فعلي في التعامل داخل العقد الاجتماعي. وعليه، لا ينبغي طلب التمجيد أو التبرؤ من شخصيات تاريخية كشرط من أجل القبول الاجتماعي الذي يفترض أن يقوم على التزام الفرد بالعقد الاجتماعي وقانون الدولة. إن الحل يتلخص في "تجاوز" الماضي وليس "العيش" من خلال تبرئته أو التبرؤ منه.

مشاركة

Error category videos cards

قد يعجبك

تابعونا على تويتر انضم إلينا على الفيسبوك
Egypt News - أخبار مصر، التطبيق الإخباري الأول في جمهورية مصر العربية