مشاركة
وقف فاليس، بالطبع، إلى جانب الكومونة"، وكتب مقالات عدة تشيد بها، هو الذي لم يكتفِ إبان الأحداث، بأن يكتب، بل انضم إلى قيادة التحرك، إذ انتخب ممثلاً عن الدائرة الـ 20 في باريس في مجلس "الكومونة". ولقد تضافر نشاطه الميداني هذا، مع كتابة المقالات التحليلية والتحريضية في صحيفة "صرخة الشعب" التي كانت واحدة من الصحف الثورية الكثيرة التي ناصرت "الكومونة"، من دون لفّ أو دوران... ونعرف أن "الكومونة" سرعان ما هزمت، فما كان من فاليس إلا أن هرب لاجئاً إلى لندن حيث أقام هناك قرابة 10 سنوات ولم يعد إلى فرنسا إلا بعد العفو العام الذي صدر عام 1880.

نعرف طبعاً أن المبدعين لحساسيتهم المفرطة يكونون، عادة، أول فئات الشعب إحساساً بضرورة التغيير، بل حتى حتميته وحتمية الدور الذي يتعيّن عليهم أن يلعبوه فيه. بيد أن هذه المسلّمة تتوقف هنا، عادة، حيث تتشعب الطرقات بين مبدعين يستكينون إلى تلك الرغبة ولا يتعدونها، وآخرين يفضلون الفعل إما بطرق ناعمة وإما بطرق عنيفة، وفئة ثالثة تكتفي بأن تعبّر عن موقفها من خلال الإبداع نفسه تاركة، بفعل إبداعاتها، وعي التغيير كعدوى حقيقية لدى متلقي أعمالها، وهي على أي حال، مهمة قد تكون صعبة أو سهلة بحسب الظروف. والحال أن الكاتب الفرنسي جول فاليس كان يمكن اعتباره مزيجاً من كل هذه المواقف والتأثيرات، في حياته كما في إبداعه. فلقد عرف عن فاليس (1832 - 1885)، أنه كان دائم الشعور بالمرارة إزاء المجتمع الذي يعيش فيه، وكان لا يتوقف عن إبداء مرارته هذه في نصوصه وكتاباته. غير أن هذا الموقف من المجتمع الذي عاصره، لم يكن موقفاً معمّماً، كان، بالأحرى، يعبّر عن مشاعر الشعب البسيط الطيب والمهان في الوقت نفسه. كان فاليس يرى، على الأقل، أن صراخه إنما هو "صراخ الشعب المقهور"، وأن ثورته التي عبّر عنها بمواقفه كما بقلمه في مقالاته الصحافية كما في رواياته، ليست ثورة ذاتية يطلقها مثقف ينظر للثورات ويغضب إزاء الأحداث من برج عاجي، بل ثورة عامة لا بدّ لها من أن تنتصر يوماً. ومن هنا حينما اندلعت ثورة الشعب في "كومونة" باريس، شعر فاليس وكأن حلمه القديم قد تحقق. شعر كما لو أن شعب باريس، وغيرها، يثأر، أخيراً، من هزيمة الحركات الانتفاضية التي كانت حدثت في عام 1848. أما "الكومونة" فنعرف أنها اندلعت في عام 1871، وكان لفاليس يومها 38 عاماً، هو الذي لن يعيش سوى 15 عاماً أخرى.

"، وكتب مقالات عدة تشيد بها، هو الذي لم يكتفِ إبان الأحداث، بأن يكتب، بل انضم إلى قيادة التحرك، إذ انتخب ممثلاً عن الدائرة الـ 20 في باريس في مجلس "الكومونة". ولقد تضافر نشاطه الميداني هذا، مع كتابة المقالات التحليلية والتحريضية في صحيفة "صرخة الشعب" التي كانت واحدة من الصحف الثورية الكثيرة التي ناصرت "الكومونة"، من دون لفّ أو دوران... ونعرف أن "الكومونة" سرعان ما هزمت، فما كان من

إلا بعد العفو العام الذي صدر عام 1880. وفي لندن راح فاليس يكتب، هذه المرة، رواية ثلاثية تؤرخ لأحداث "الكومونة" ولبطولات الشعب الفرنسي، حملت عنوان "جاك فانتراس"، وهي رواية لم يكتمل نشرها إلا في عام 1886، أي أن جزأها الأخير صدر بعد رحيل فاليس. صحيح أن هذه الثلاثية كانت عن "الكومونة" ورجالها، لكنها كانت في الوقت نفسه أوتوبيوغرافية، أي تتضمن جزءاً من سيرة فاليس نفسه، قبل "الكومونة"، وأثناءها، ولئن أتت أجزاء الثلاثية مترابطة الأحداث والشخصيات في ما بينها، فإن من مميزاتها أنها كانت تقرأ، أيضاً، منفصلة حيث أن كل جزء كانت له خصوصيته وأحداثه.

لاحقاً حينما تندلع الحرب الفرنسية - الألمانية في عام 1870، يشعر الصحافي الثائر بالاشمئزاز إزاء "هوجة" الشوفينية المعادية للبروسيين (الألمان) التي تجتاح فرنسا، وهو يقول عن هذه الهوجة "إنها أكبر خيبة أمل أصابتني في حياتي كلها". ولاحقاً حينما تندلع "الكومونة" في 18 مارس (آذار) 1871، يرى فانتراس أن هذه اللحظة هي اللحظة التي يتحقق فيها الحلم الثوري الإنساني والأممي الذي طالما ساوره خلال حياته كلها. فيقول: "إنها، إذاً، اللحظة المأمولة التي كنت انتظرها منذ أول ضروب القسوة الأبوية التي عانيت منها صغيراً. أي منذ أولى صفعة تلقيتها. منذ أول يوم أمضيته من دون خبز، منذ أول ليلة نمتها خارج أي دار: إذاً ها هو ثأري من الكلية، من البؤس، ومن أحداث ديسمبر (كانون الأول)، يعني الأحداث التي اندلعت ضد نابليون الثالث وأخفقت". ولكن فانتراس، الإنساني بطبعه، والذي لم يكن يريد لثورته الأثيرة أن تتلطخ بالدماء، يضيف هنا: "أنا لم أكن أريد أبداً أن تتلطخ بالدماء أيادينا، منذ فجر انتصارنا"، ولكن ما العمل والثورة، كل ثورة لا يمكنها أن تخلو من سفك الدماء؟ إذاً ها هو فانتراس - فاليس يعيش خيبة جديدة في حياته، هو الذي كان يسعى طوال تلك الحياة إلى تحقيق عالم نظيف لا دماء فيه ولا ظلم. هنا يصل الكاتب إلى ذروة تناقضاته، فهو، إذ يعبّر عن توقه إلى ذلك العالم الجميل الذي لا تبارح صورته المثالية خياله، يعبّر، في الوقت نفسه، عن وقوفه إلى جانب الشعب. فهو، بعد كل شيء، يشعر بكراهية كبيرة إزاء مجتمع لا يرحم الفقراء على الاطلاق، مجتمع لا يرحم أياً من الذين يرغبون في ألا يخضعوا لاستعباد المجتمع لهم.

إزاء تناقضاته هذه، لا يعود أمام الكاتب (وبطله) إلا أن ينظر إلى كل ما يحدث بكثير من الرعب، مستخدماً للتعبير عن ذلك لغة قاسية وفجّة، لكنها، في الوقت نفسه، لا تخلو من شاعرية عميقة ومن تطلع نحو الأحاسيس الداخلية والوجدان، وخصوصاً حينما يتحدث فاليس عن البسطاء، إذ هنا سرعان ما تتخذ لغته طابعاً بسيطاً جزلاً، ويحسّ المرء من خلال عباراته تعاطفاً حاراً مع كل الضحايا. ولاحقاً حينما تهزم "الكومونة"، يقرر الكاتب أن أحداً لن يهزمه وأن أحداً لن ينال منه... ومن هنا تمتد ثورته وتتجذر ولكن هذه المرة، في روايته، لا في شوارع باريس التي صبغت بالدماء. عاش جول فاليس بين عامي 1832 و1885، وهو، منذ طفولته في بيت كان الأب فيه مدرساً ذا نزعة اشتراكية، والأم فلاحة متمردة، حمل أفكاره التحررية، ومنذ شبابه الباكر عمل في الصحافة، في الريف أولاً ثم في باريس بعد ذلك، وكتب المقالات التحريضية منذ عام 1848. وظل مواصلاً تلك الكتابة ما جعله يسجن، مرات عدة، خلال السنوات التالية. أما حينما هزمت "الكومونة"، فإنه، رفض أن يسجن من جديد واختار المنفى، حيث سمحت له بعض سنوات الهدوء بإنجاز "ثلاثيته" الأساسية تلك.

مشاركة

Error category videos cards

قد يعجبك

تابعونا على تويتر انضم إلينا على الفيسبوك
تحميل تطبيق توابل - أجود أنواع التوابل المغربية