مشاركة
العمق الاستراتيجي في خطاب العرش
منذ 4 أيام
وجه جلالة الملك محمد السادس حفظه الله خطابا إلى الشعب المغربي، يوم 29 يوليوز 2025، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش المجيد. هذا الخطاب دام أقل من ربع ساعة من الزمن، ومع ذلك هو بالفعل خطاب نوعي بمقياس ساعة زمن التلقي والزمن النفسي. إنه خطاب بليغ في دلالات عباراته وفقراته، عميق في معانيه، دقيق في استراتيجياته الخطابية. ومن ثمة فهو خطاب موجز؛ لكنه بقدر ما كان واضحا وبليغا في ألفاظه وجمله، كان متعددا في أبعاده. حيث جاء يحمل بعدا تفكيكيا في تقييماته، ويحمل بعدا تركيبيا في توجيهاته، ويحمل بعدا استراتيجيا في رؤيته. كما جاء معتمدا نموذجا خطابيا نوعيا يجمع بين البعد المنطقي الحجاجي المتشبع بمؤشرات القياس والقابلية للملاحظة؛ والبعد الأخلاقي الرمزي المتشبع بروح الالتزام والوفاء والانتماء؛ والبعد العاطفي المتشبع بروح الأبوة السياسية الناضجة والرعاية السامية. في محاولة بسيطة لقراءة نص الخطاب الملكي وفهم واستيعاب مضامينه الظاهرة، ودلالاته ومعانيه المضمرة، نتوقف عند إحدى فقراته التي هي من بين الفقرات الأكثر كثافة. يقول جلالة الملك: “تعلم جيدا أنني لن أكون راضيا مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم بشكل ملموس في تحسين ظروف عيش المواطنين من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات”. هي فقرة، إذا ما تم النظر إليها في علاقتها بالسياق العام الدولي والوطني، والإمكان التاريخي في ظل جملة التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي ورهانات السياسات العمومية في مختلف مجالات التنمية وأثرها المباشر على الحياة اليومية للمواطن، من جهة، وعلاقة هذه الفقرة بالذات بمجمل فقرات هذا الخطاب السامي، من جهة ثانية، نجدها فقرة بالغة الدلالة، كثيفة المعاني. لتفكيك هذا الإيجاز الكثيف والعميق نستدعي جملة مفاهيم مفتاحية، تضمنتها هذه الفقرة، وهي كفيلة بتحقيق الفهم واستيعاب القصد، على الشكل التالي: 1- “تعلم جيدا”. صيغة تأكيد مباشر وحازم. تفيد بأن العلم بالأمر قائم، والخطاب في عمومه موجه لمجموع الشعب باعتباره المرسل إليه، المعني بالرسالة. لكنه، أيضا، في خصوصه موجه بشكل ضمني للفاعل الاقتصادي وللفاعل المنتج للسياسات العمومية ولكل من يوجد في موقع التخطيط والتدبير وصناعة القرار. إنه خطاب المسؤولية الذي يحمل إشارات التذكير والتنبيه والتوجيه. 2- “لن أكون راضيا”. صيغة مركبة تحمل في طياتها بعد حجاج يقوم على موضوع ومضمون الرضا من جهة، وعلى وظيفة القيادة والإشراف والمراقبة من جهة ثانية؛ وتحمل بعدا أخلاقيا يقوم على الأثر المنتج لحالة الرضا والمثبت لها في الوقت ذاته؛ كما تحمل بعدا عاطفيا تعكس نوعية العلاقة القائمة بين الذي يرضى والذي يستحق أن يقع عليه فعل الرضا، سواء أكان ذاتا مؤسساتية أو كان فعلا محددا ضمن مجال من مجالات السياسة العمومية. وهي علاقة مباشرة تقوم على أساس الفعل والإنجاز بما يجعل فعل الرضا فعلا تقديريا لمضمون هذا الفعل وهذا الأداء، ويجعل فعل الرضا، ذاته، فعلا ضمن دائرة أفعال المسؤولية المتعددة الأطراف. 3- “التنمية”. هي صيغة مفهومية مركبة في ذاتها ومتعددة الأبعاد والمكونات، ما يجعلها محط اختلاف في القصد وفي الدلالة والمعنى. وحيث إنه تم تخصيص المكون على أساس دقة القصد بالقول “التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية” فهذا يعني أن هذا النوع من التنمية قد يكون خيارا استراتيجيا في ذاته بما يجعل منه غاية، وقد يكون خيارا تكتيكيا يجعل منه مجرد وسيلة وسيرورة إنجازية أفقها تحقيق غاية أخرى. على هذا الأساس فإن العبارة ليست تامة الدلالة، وتحتاج إلى قرينة لاستكمال الفهم والقصد، وعامل يؤشر على المعنى المراد من صيغة التنمية، ويعكس حالة الارتداد والتكامل بين الوسيلة والغاية، لأن كلا منهما يبرر الآخر عندما يتعلق الأمر بالحق في التنمية. 4- “إذا لم تساهم بشكل ملموس”. عبارة تمثل تلك القرينة المنتظرة، والعامل المؤشر عن القصد، حيث تم ربط التنمية بغاية هي المساهمة الملموسة التي يؤشر عنها الأثر القابل للملاحظة والقياس. ومن ثمة صارت التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاتها. وصار تحقق الرضا مرتبطا بنفيه ما لم تحقق هذه التنمية أثرها وغايتها. 5- “تحسين ظروف عيش المواطنين”. إنها عبارة تحدد الأثر المنتظر من التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية حتى يتحقق الرضا في مستوييه: رضا المواطن على مستوى عيشه وعلى أداء دولته من جهة، وهو رضا ينتج إدامة الاستقرار في الشكل والمضمون؛ ورضا جلالة الملك، باعتباره غاية كبرى موضوعها جودة أداء الدولة ومؤسساتها والسياسات العمومية من جهة ثانية. 6- “من كل الفئات الاجتماعية، وجميع المناطق والجهات”. هي عبارة تفيد بعدا دستوريا يتمثل في المساواة والجهوية المتقدمة كاختيارين استراتيجيين. وبعدا اجتماعيا يتمثل في العدالة والإنصاف، وبعدا أخلاقيا يتمثل في الرعاية المولوية التي تشمل جميع أبناء الوطن بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية، وجميع جهات ومناطق البلاد، دون تمييز بين هذه الفئة أو تلك، وبين هذه الجهة أو تلك، بما يضع حدا لمقولة المغرب النافع والمغرب غير النافع. وهي عبارة تفيد، في الوقت ذاته، بأن تمييزا إيجابيا لفائدة الذين لم يشملهم بعد أثر التنمية، ولم تسهم مخرجاتها في تحسين ظروف عيشهم، وخاصة تلك الفئات الاجتماعية التي هي في حاجة إلى دعم مباشر ومكثف من جهة، وتلك الجهات التي لم تشملها حركة التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، وكذا تلك المناطق القروية التي مازالت تعاني التهميش والعزلة وهشاشة الخدمات العمومية والاجتماعية من جهة ثانية. استنادا إلى كل هذا، نجد أن هذه الفقرة من الخطاب الملكي السامي وحدها، رغم كثافتها وبلاغتها تحقق فهما عميقا يجعل استيعاب المقاصد الاستراتيجية لهذا الخطاب السامي والنوعي ممكنا، نجمله في أربع خلاصات أساسية: خلاصة أولى تفيد بأن هذه الفقرة تقدم، بشكل ضمني، تقييما بليغا لنموذج تدبيري للسياسات العمومية وللنموذج التنموي. وهذا التقييم يقوم على أساس الأثر في عيون المواطن وفي واقعه وعلى حياته اليومية بمختلف فئاته، وفي عيون الوطن بمختلف جهاته ومناطقه ومجالاته، لا على أساس مؤشرات النمو الاقتصادي والاستثمارات ومؤشرات تقدم البنيات التحتية وحدها، بما يفيد بأن التنمية وسيلة والمواطنة غاية والجهوية المتقدمة اختيار استراتيجي لتفعيل الحق في التنمية. خلاصة ثانية تفيد بأن هذه الفقرة تتضمن توجيها تصحيحيا، لا للاستدراك أو معالجة التعثرات وفقط، وإنما لإعادة توجيه بوصلة التخطيط والتدبير عن طريق ربط المشاريع الاستراتيجية وأهداف النموذج التنموي الجديد بالأثر القابل للملاحظة والقياس من خلال مؤشرات رضا المواطن وجودة الخدمات العمومية والاجتماعية، في ظل استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي يتلاءم والتحديات التي تفرضها التحولات الكبرى التي يعرفها العالم، ويتلاءم ورهانات المرحلة المقبلة، في السياق الوطني، ضمن سيرورة التقدم والرفاه الاجتماعي وإرساء مستلزمات ترسيخ المواطنة الكاملة؛ ليس فقط في أبعادها السياسية والمدنية، وإنما كذلك في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. خلاصة ثالثة تفيد بأن هذه الفقرة تقدم رؤية استراتيجية تأسيسية لنموذج العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية، ذلك النموذج الذي لا يكتفي بالشعارات العامة، وإنما يسعى إلى مأسسة وترسيخ مستلزمات تحقيق الإنصاف واستدامته، إن على مستوى توزيع الجهد، أو على مستوى توزيع فوائد الثروة الوطنية، أو على مستوى توزيع المشاريع الاستراتيجية على مستوى مجموع جهات الوطن. نموذج يسعى كذلك إلى تفعيل هذه المستلزمات بما يجعل لهذا الإنصاف أثرا حقيقيا قابلا للقياس ومحققا للرضا، تستفيد منه كل الطبقات والفئات الاجتماعية. وقد حدد الخطاب في فقرة أخرى أربعة مداخل استراتيجية مهيكلة تتمثل في: دعم التشغيل، وتقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية، واعتماد تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية، وإطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى. وهذا وحده ما يجعل المواطن راضيا ومساهما في استقرار البلاد على مختلف المستويات. وفي رضا المواطن يتحقق رضا جلالة الملك، ويتحقق أثر التعاقد بين الملك وشعبه، وبين المواطن ومؤسساته، في ضوء مقومات الدولة التعاقدية، ويتحقق أثر البيعة بين الملك ورعاياه، وبين الأب ومجموع أبنائه، في ضوء مقومات الدولة الاجتماعية الراعية. خلاصة رابعة تفيد بأن هذه الفقرة تقدم رؤية جديدة لعلاقة الدولة التعاقدية بالدولة الاجتماعية الراعية، رؤية تربط بين الديمقراطية باعتبارها واحدة من الاختيارات الدستورية الاستراتيجية من جهة، والتنمية البشرية والمجالية باعتبارها رهانا وطنيا يستدمج مختلف مكونات وعناصر الحق في التنمية من جهة ثانية. على أن تتجاوز هذه العلاقة مستوى تقدم المؤشرات الكمية للنمو والتنمية، وتنفتح على الأثر الذي تمثله منظومة الرضا العام. ذلك الرضا الذي يبدأ بالمواطن حيثما كان مكانيا واجتماعيا، وينتهي برضا ملك البلاد. وهذا لن يتحقق عبر البرامج والمشاريع والشعارات المتنافرة، وإنما عبر مخططات وبرامج ترابية مندمجة وضامنة للالتقائية. الأمر الذي يستدعي تخطيطا مندمجا يستند إلى منظومة القرب في بعدها المجالي محليا وجهويا. كما يستلزم إعادة النظر في منظومة الانتخابات وقوانينها بما يسهم في تطويرها وصيانتها وحمايتها وتأمينها من جهة، وبما يسمح بإعادة تدقيق أدوار الفاعل الانتخابي المحلي والجهوي والارتقاء به، بما يجعل العملية الانتخابية، في حد ذاتها، عملية سياسية متجددة، تفرز نخبا سياسية حقيقية، نخبا قادرة على تدبير الشأن العام بمنظور سياسي قائم على برامج سياسية واقعية وقابلة للتنفيذ ومحدثة للأثر في سيرورة التنمية في مختلف أبعادها، وعلى المواطن في حياته اليومية، وليست مجرد عملية انتخابية تنظيمية دورية وروتينية تعيد إنتاج نخب تفتقر للرؤية السياسية والحس الوطني والإرادة وروح المبادرة، من جهة ثانية، وخاصة أن الانتخابات المقبلة على الأبواب، وحمى الحراك الحزبي بدأت تعد العدد، في السر والعلن، إن على مستوى التنظيم وفرز القيادات أو على مستوى التعبئة وفتح قنوات التواصل والاستقطاب. إن رؤية جلالة الملك التأسيسية لمشروع العدالة الاجتماعية ومشروع العدالة المجالية، في ضوء نموذج تنموي جديد، يراهن على تنمية المواطنة وتحسين مؤشرات جودة عيش المواطن، حيثما كان، يستلزم الجدية والمزيد من الجدية في أبعادها المختلفة. لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف. عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.
مشاركة