المُضمَرُ والمُعلنُ في خطاب العَرش
مشاركة
هذه ليست قراءة غيب انطلاقا من دوائر فنجان، ولكنه تحليل خطاب ملكي. أعرف كمواطن مغربي من ألقاه، وما هي المسارات الجيوسياسية والجيُوستراتيجية التي يسلكها بلدي في مسألة عشناها منذ بدايتها في 1975م، ونحن تلاميذ في الإعدادي، وتعايشنا معها طلابا في الجامعة وأعضاء فاعلين في الجمعيات والأحزاب السياسية، ونعرف الوضع الدولي والإقليمي الذي يُحيط ببلدنا جهويا وإقليميا ودوليا.

خطاب العرش عادة ما يكون قصيرًا، وجمله وعباراته تكون في الغالب معدودة. وخطاب هذه السنة 2025 لم يخرج عن القاعدة، ولكنه جاء مُشبعًا أكثر من غيره بالدّلالات والرّموز والإشارات، بعضها جليٌّ ومُعلن في الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك، وأخرى مُضمَرة ومسكوتٌ عنها لحكمة لا يعلمها إلا جلالته.

صرّح جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطاب العرش أن حرصه كان شديدا على تعزيز مكانة المغرب ضمن نادي “الدّول الصّاعدة”، وهذه الدول العشر في إفريقيا، المغرب واحدٌ منها، ليس بناء على مداخيل النفط والغاز، ولكن بناء على سواعد رجاله ونسائه. ولذلك، قال جلالته أن “ما حققته بلادنا لم يكن وليد الصّدفة”. وهذا صحيح إلى أبعد الحدود، ما حققته المملكة المغربية من إنجازات، لم يكن نتيجة صراخ وزراء في وسائط التواصل الاجتماعي ومنابر إعلامية، وإنما نتيجة عمل جبّار قام به فريق يعمل في صمت، ويُنزّل بإحكام ما يُخطط له على أرض الواقع.

جاء في الخطاب أيضًا أنه “لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسُرعتين”، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأننا أصبحنا نعيش فعلا في مغرب المُفارقات والفوارق. مُدنٌ بمواصفات أوروبية وعالمية على ساحلي بَحْرَيْ المتوسط والأطلسي، ومجالاتها الجغرافية تنعم برخاء القرن الواحد والعشرين، مثل: طنجة، القنيطرة، الرباط، الدار البيضاء، أكادير، ومعها حتى مراكش في الوسط. ومدن وقرى أخرى نائية في الجنوب، الوسط والشرق متأخرة عنها بسنوات.

أصبح المرور من بعض المناطق في الأطلس المتوسط يُؤلم القلب ويُوجع العَين، ويؤكد بالمَلموس هذه المفارقة، ولو أخذنا مدينة أزيلال وضواحيها مثلا، انطلاقا من: واويزغت، آيت كلّا، آيت امْحَمّد، آيت بوكمّاز، مرورًا بمُدن تَنانت ودمنات وقراها الصغيرة ودواويرها، وصولا إلى شمال شرق مراكش، ستظهر لنا حياة الناس هناك، وكأنهم لا يعيشون القرن21.

ملامح دور طينية بئيسة وأنشطة فلاحية ضعيفة، زاد من ضعفها وتأزيمها جفاف وطول سنوات عِجَاف. كل ما رأته عينيّ في جوَلاتي بمُدن وقرى وسط المغربي الشرقي، لا تطمئن له النفوس والقلوب، ومشاهد لا ترقى إلى ما نطمح إليه كمغاربة في هذا “المَغرب الصّاعد” الذي تحدث عنه جلالة الملك، مثل: ميدلت، الريش، الراشيدية، الريصاني، أرفود، مرزوكة، أنيف، تنغير، تنجداد، كلميمة وأريافها، وقد تكون مناطق أخرى غيرها، وهي عديدة، تحتاج من الدولة إلى عمل جاد وتنمية مستدامة وحقيقة، وإن كان المغرب يعمل على ترسيخ مكانته كبلد صاعد في إفريقيا والعالم، وهو يقتحم بجُرأة وثقة في النفس مجالات صناعية وعلمية دقيقة، كانت إلى عهد قريب تحتكرها دول كبرى أو متقدمة، مثل: صناعة أجزاء الطيران، السيارات، الأجهزة والألياف والشرائح الإلكترونية الدقيقة.

من الأشياء المسكوت عنها كذلك والمُضمرَة، وقد “دَازْتْ حْسّي مْسّي” في الخطاب الملكي، بالرغم من أهميتها الإنسانية القصوى، هي قيام المملكة المغربية، بدون ضجيج إعلامي ولا شعارات، بإدخال 180 طنًّا من المُساعدات الغذائية والأدوية الضرورية إلى الأطفال والرُّضع والمَرضى الغَزّيّين الذي يُعانون من الحصار والتّجويع والقتل العَمد أمام صمت العالم وخيانة الإنسانية لمبادئها، وضدّ القانون الدولي المعمول به الأمم المتحدة، وضد منطق العقل ومنطق التاريخ والأشياء في قطاع غزة المُحاصر من قبل الجيش الإسرائيلي المُحتل.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم‬.

مشاركة

قد يعجبك

تابعونا على تويتر انضم إلينا على الفيسبوك
تحميل تطبيق توابل - أجود أنواع التوابل المغربية