مشاركة
هل كانت واشنطن طرفا في انتهاك سيادة قطر؟
منذ ساعتين
لم تكن الانفجارات التي دوت في الدوحة مجرد أصوات عابرة في سماء الخليج، بل بدت وكأنها رسائل مشفرة مكتوبة بالنار والرماد، تخاطب الإقليم والعالم معا. فالمكان هنا ليس أي عاصمة، بل عاصمة لعبت دورا محوريا في صناعة الوساطة بين الخصوم، وفي توفير منصة سياسية لتفاوض طالما أغلق بابه في وجه الآخرين. لهذا بدا المشهد أكبر من مجرد انفجار أو محاولة اغتيال؛ كان أقرب إلى كسر توازن هش تشكل بصعوبة، وتهديد لمعادلة تقوم على أن قطر تظل حاضنة للوساطة وليست مسرحا للصراع. إن الدخان الذي ارتفع فوق كتارا لم يكن دخان مبان أو سيارات فقط، بل دخان مرحلة جديدة تحاول أن تفرض نفسها بقوة السلاح على خرائط السياسة. ولأن السياسة الدولية تعرف كيف توظف اللحظة، فإن الانفجارات في الدوحة سرعان ما تحولت إلى اختبار لمكانة قطر وموقعها. فمنذ سنوات تتقدم الدوحة بوصفها وسيطا لا غنى عنه، تفتح الأبواب المغلقة وتقرب الخصوم المتنافرين. لكن ماذا يعني أن تضرب العاصمة ذاتها؟ إنه إعلان ضمني بأن الوسيط لم يعد بمنأى عن نيران الخصوم، وأن لعب دور الجسر قد يجعلك في النهاية هدفا للقصف. هنا يطرح السؤال الاستراتيجي نفسه: هل أراد المنفذون أن يوقفوا الوساطة أو أن يضغطوا على الوسيط؟ وفي الحالتين، فإن الضربة تهدد بإعادة صياغة التوازنات الإقليمية، وتجعل الوسيط جزءا من اللعبة بدل أن يكون خارجها. على الجانب الدولي، فإن الولايات المتحدة، الحاضرة بقواعدها في قطر، تجد نفسها أمام معضلة جديدة. فهي التي تقدم الدوحة دوما بوصفها شريكا وحليفا موثوقا، لكنها الآن مطالبة بأن تثبت أنها قادرة على حماية هذا الحليف من اختراق أمني بهذا الحجم. وإن لم تفعل، فستكون مصداقية مظلة الحماية الأميركية على المحك، ليس في قطر وحدها بل في كل الخليج. وهنا يظهر البعد الاستراتيجي الأوسع: فأمن الدوحة ليس مسألة قطرية فقط، بل هو جزء من معادلة أمن الطاقة العالمية، ومركز الثقل في توازنات الخليج. وأي اهتزاز فيه ينعكس على أسعار الغاز والنفط، وعلى حسابات الأسواق كما على حسابات السياسة. ثم هناك السؤال الأخلاقي الذي لم يعد قابلا للتجاهل: كيف يمكن للعالم أن يقبل بعمليات عبر الحدود تستهدف أراضي دول لم تدخل في حالة حرب معلنة؟ إن القانون الدولي يقول شيئا، والواقع السياسي يقول شيئا آخر. وما بين النص والواقع، يتسع فراغ خطير يملؤه العنف المسلح. إذا صح أن ما جرى محاولة اغتيال، فسنكون أمام سوابق تقوض مبدأ السيادة وتفتح الباب أمام شريعة الغاب الدولية، حيث تصبح أي دولة معرضة لأن تتحول إلى ساحة صراع بالوكالة. هذا هو جوهر التحول الذي تكشفه الانفجارات: لم تعد الإنسانية معيارا، بل صارت المصالح وحدها هي المعيار، حتى ولو كان الثمن استباحة العواصم. المشهد لا يقتصر على قطر وحدها، بل يمتد إلى شبكة أوسع من التوازنات الإقليمية. فإذا كان الاستهداف موجها ضد حماس، فهذا يعني أن إسرائيل وسعت دائرة الصراع لتشمل أراضي وسيط إقليمي، الأمر الذي يضع كل أدوار الوساطة في الميزان. كيف ستتفاعل مصر مثلا مع حدث كهذا وهي التي تتقاسم مع قطر دور الوساطة في غزة؟ وكيف ستقرأ تركيا وإيران هذه الرسائل النارية المرسلة إلى الخليج؟ إن كل طرف سيعيد حساباته، مدركا أن الخطوط الحمراء القديمة لم تعد حمراء، وأن عواصم الوساطة نفسها قد تتحول إلى جبهات. وهذا ما يجعل الانفجار ليس حدثا محليا، بل منعطفا إقليميا يُعيد تعريف أدوار اللاعبين. أما خليجيا، فإن الدوحة ستسعى إلى التوازن بين التمسك بدورها كوسيط وبين الدفاع عن سيادتها. فمن جهة، هي لا تريد أن تظهر أن الضربة أضعفت مكانتها أو حيادها؛ ومن جهة أخرى، هي لا تستطيع أن تمر على الحادثة دون رد سياسي ودبلوماسي يحفظ ماء وجهها كدولة. هنا سيظهر الدور الخليجي المشترك: هل ستقف العواصم الأخرى متفرجة أم ستعتبر أن المساس بالدوحة هو مساس بالمنظومة كلها؟ وإذا كان الخيار الثاني هو المرجح، فقد نرى خطوات منسقة على مستوى مجلس التعاون، وربما بيانات شديدة اللهجة تحمل رسائل مزدوجة لإسرائيل والولايات المتحدة معا. اقتصاديا، تبدو القضية حساسة بقدر ما هي سياسية. فقطر ليست مجرد وسيط دبلوماسي، بل هي خزان الغاز المسال الذي تعتمد عليه أوروبا وآسيا. وأي شعور بأن الدوحة مهددة أمنيا يرفع فوا علاوة المخاطر على أسواق الطاقة. قد لا تكون الانفجارات قريبة من منشآت الغاز، لكن الصورة وحدها كافية لإرباك الأسواق. وهذا ما يفسر سرعة التغطيات العالمية؛ فالخبر لم يعد عن انفجارات فقط، بل عن استقرار الطاقة، عن أسعار العقود الآجلة، وعن قدرة العالم على تحمل صدمات جديدة. وهكذا تتداخل السياسة بالأمن، ويتحول حدث موضعي إلى عامل مؤثر في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإن أخطر ما تكشفه هذه اللحظة هو فقدان النظام الدولي لأي قدرة على التظاهر بالإنسانية. في سوريا، كان الحصار ذريعة لترك الناس تحت الأنقاض؛ في أفغانستان، كانت الذريعة غياب الاعتراف بالسلطة؛ واليوم، في قطر، قد تكون الذريعة مطاردة قيادات سياسية. تتعدد الأسباب، لكن النتيجة واحدة: الإنسانية خرجت من المعادلة. ومن هنا، فإن الانفجارات في الدوحة ليست مجرد إنذار عابر، بل هي إعلان أن النظام الدولي دخل مرحلة جديدة، حيث لا مكان لسيادة الدولة إلا بقدر ما تستطيع أن تدافع عنه بقوتها أو بشبكة تحالفاتها. وما لم تستوعب العواصم هذه الحقيقة، فإننا سنرى المزيد من الدخان يتصاعد فوق مدن أخرى، شاهدا على عصر لم يعد فيه أحد بمنأى عن نيران السياسة. وبغض النظر عن درجة تورط واشنطن، فإن مجرد طرح السؤال يكفي لإضعاف صدقيتها أمام حلفائها. فالدول الخليجية التي تستضيف قواعد أميركية ستعيد حساباتها إذا شعرت أن هذه القواعد تحولت من مظلة للحماية إلى بوابة لاختراق السيادة. والدوحة، التي طالما بنت مكانتها على الجمع بين الوساطة السياسية والتحالفات الأمنية، تجد نفسها اليوم في قلب هذا الامتحان: إما أن تضغط للحصول على توضيحات وضمانات من واشنطن، أو أن تخاطر بأن تصبح ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية. وفي كلتا الحالتين، فإن انفجارات الدوحة تكشف أن النظام الدولي يعيش لحظة انكشاف كامل، حيث لم يعد بمقدور القوى الكبرى أن تدعي البراءة، ولا بمقدور الدول الصغيرة أن تتوهم الحماية المطلقة. إنّ انفجارات الدوحة لم تكن مجرد حدث أمني عابر، بل لحظة انكشاف كبرى للنظام الدولي، إذ أظهرت أن الوساطة يمكن أن تتحول إلى هدف، وأن السيادة قد تستباح حتى في ظل أكبر القواعد الأميركية، وأن الإنسانية لم تعد سوى شعار يرفع حين تتوافق المصالح ويسقط حين تعارضها. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي لم يعد: من ضغط على زر التفجير؟ بل: من سمح أن يحدث ذلك في قلب عاصمة وصفت طويلا بأنها منصة للتسويات لا مسرحا للصراعات. والجواب، أيا كان شكله، يكشف أن العالم دخل طورا جديدا لا يملك فيه الصغير سوى أن يعيد تعريف تحالفاته، ولا يملك فيه الكبير سوى أن يواجه حقيقة انكشافه أمام أعين الجميع. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة قُصفت الدوحة، وتألمت قطر، وتلقى أميرها العشرات من الاتصالات المنددة والمتضامنة مع الدولة الصغيرة والغنية بالغاز والنفط، بعد أن وصلتها الصواريخ الإسرائيلية، وقبلها كانت الصواريخ الإيرانية تضرب قاعدة "العديد" على ... الرجاء إدخال عنوان البريد الإلكتروني. سوف تتلقى رسالة بريد إلكتروني مع تعليمات حول كيفية إعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
مشاركة